مقلمة في الإنعاش!

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

أمسكتُ قلمي كما يفعلون، كثيرًا ما سقط منّي وانتابني الشعور بأنه هاجر أوعاق؛ ولأنني لا أنحني لالتقاط ما يسقط منيّ، حاولت مرارا ألاّ ألتفت له، لكنّ شيئا ما يجعلني أهمّ بالتقاطه، لا أدري أهو الشغف لجعل اسمي يزاحم الفراغ في زحام الأقلام والمثقفين، أم أنَّ هناك ما يمكن أن يُكتب فأكتبه علّه يُقرأ، أم أنّها وصية أبي ما تجعلني أُكثِرُ الانحناء له؛ فأعمل على إحاطته بعناية ثلاثة أصابع يمينية تعد لها المركزية والاعتماد.

امتلأت المقلمة بالأقلام وتباينت في لون الحبر والأشكال، بعضها جديد وأخرى أوشك حبره على النفاد، وهناك ما هي تحت رحمة أجهزة الإنعاش.

كتبوا، يكتبون، اكتبوا، تختلف هذه الأفعال عن بعضها من حيث الدلالة بالرغم من اشتراكها في الجذر اللغوي، وفي دلالة الكتابة سواء في الزمن الماضي أو المضارع أو الأمر، نستدل من خلال الفعل "كتبوا" أن هناك الكثير ممّن قاموا بالكتابة منذ زمن بعيد، ويشير الفعل المضارع "يكتبون" على استمرارية الكتابة حتى زمننا الحالي، أمّا الفعل الآمر "اكتبوا" فهو لا يُبشر بالخير، فكلّ مأمور لا يجيد إتقان المهمة؛ فأفعال الأمر مستهجنة ووقعها ثقيل على المسامع، فحين أقول إنني من أشد النَّاس كرهاً لأفعال الأمر، فحتماً لا أبالغ؛ فهي تفرض ما تأمر به دون أن تجعل للطرف الآخر رأيا، وتشعره أنَّ عليه خفض أفقه وتحرمه النظر للأعلى.

كانت أغلب قصائد الشعراء قديماً بدافع التكسب والتقرب للملوك والأمراء، فغلب على معظمها طابع المدح والتكلّف والاستعطاف، وهذا يقابل ما تأمر به بعض الأقلام نفسها بطلاء الحبر على الورق دون اكتراث لذائقة القارئ.     

"نون والقلم وما يسطرون" كان ممّا أقسم به الله في كتابه الكريم "وما يسطرون" القسم الإلهي الذي تجلّى في عظمة ما يُكتب؛ فهو يوحي برفعة مقام ما يقسم به.

ينتابني شعور عند دخولي المكتبات وأنا مبتهجة باشتمام رائحة الورق، وكوني تحت تأثير عطرها الآسر، أنني سأجد الكثير من الكتب التي أطمح لقراءتها وتدخل العافية إلى نفسي، ولكن يحدث أن لا أشتري سوى كتاب وقد لا أجد ما يسد جوع فكري.

لقد ضاقت أرفف أغلب المكتبات، بما عليها من الصفحات المطلية بالحبر، دون تحقيق غاية أدبية أو علمية أو حتى فائدة ربحية للمكتبة، ما أسهل أنْ يمتهن أحدنا الكتابة في هذا الزمن؛ فالأمر لم يعد بذلك القدر من الصعوبة أو بقدر امتلاك الموهبة والاهتمام بما يُكتب، بل إنّ الأمر بالمزيد من الاستعراض والتباهي وارتداء رداء الثقافة كلما دعت الضرورة.

كلما غثني تزايد الكتب فقيرة المحتوى، أتساءل: لِمَ ولمن يكتبون، ومتى يتوقف هؤلاء عن العبث بالحبر؟!

ما الفرق بين احتراف الكتابة وامتهانها، وهل كلاهما يحققان للقارئ الفائدة؟ لن أجيب فالقارئ حتماً يدرك الإجابة.

للذهب رونق؛ فبالإضافة لاحتفاظه بقيمته المادية، إلاّ أنَّه لا يصدأ ويزداد بريقه كلما توالت عليه السنون، كذلك النخبة من الكتب خفيفة الظل على أرفف المكتبات، فأحياناً لا تجدها وتبحث عنها فيفاجئك أحدهم بقوله: لقد نفدت الطبعة جميعها فانتظر الطبعة اللاحقة.

إن صناعة الكلمات لا تقل أهمية عن صناعة الطائرات، فالطائرة تختلف عن غيرها من وسائل النقل، فهي قبل أن توصلك إلى المكان الذي إليه وجهتك، تأخذك نحو الآفاق وتسبح بك جوّاً بين أعماق الغيوم وأحضان السماء، فتشعر بسموّ روحك، فهي تحلق وترتفع عن كلّ ما هو دونها؛ كذلك عندما تقرأ كتاب تمّت صناعته على أنه كتاب؛ فيهديك صانعه عصارة فكره ومخارج لسانه وعاطفته الصادقة من خلال سرد وسياق أذهل اللغة. 

قرأتُ موخرا خبر انتحار الملحد السوري اليوتيوبر ديفيد الملّقب بـ"راجلكاف" أو رجل الكهف، بمقر إقامته في السويد، بعد مُعاناته من مرض نفسي يسمى "الاكتئاب ثنائي القطب" ما أدهشني أنَّه مؤلف لكتابين الأول بعنوان "كيف تهزم اليأس" والثاني "كيف تحصل على السعادة بعيدًا عن الأديان" وبما أنَّه ملحد ويكثر التطاول على الذات الإلهية، فالكتاب الثاني يُعد تحصيل حاصل، بينما الغريب والمُثير للدهشة هو تأليفه للكتاب الأول الذي يوحي من عنوانه أنَّه مدرسة لتعليم الأمل ودحر اليأس؛ فكيف للمُنادي بهذا المبدأ أن يتخلى عنه، وما أهمية التأليف إن لم تكن رصانته مقرونة بصدق الصانع والمصنوع؟!