سواقة الهم

 

طفول سالم

خلعتُ نظارتي ويداي ترتجفان أمام دَوَّار المدينة الذي أشار إليه الشرطي أن اجتازه دورة كاملة واتَّجَهَ إلى الأمام!

تَبًّا.. أَمْسَحُ ضباب تنفُّسي المتدفق كالبخار على عدسات نظارتي التي فجأة حجبت الرؤية، إِنّه يَحْسِب الوقت والسيارات في تتابُع لم يترك لي الفرصة لأعبر أو هكذا أرى؛ فلا مجال للتراجع، ولكنْ ماذا لو أفرغتُ كل تلك الأفكار في رأسه ليتفهّم سبب ارتجافي وخوفي من التّقدم... إنّه لا يستثني امرأة خائفة من القيادة وتتحدّى نفسها في أنّها ستُثابر وتنجح يومًا ما لا شَكَّ... انقطع حبل أفكاري حين حاولتُ أن أغامر وأندفع إلى الدّوامة التي أراها أمامي... سأُخاطر؛ بل سأتهور، بكل ارتباكي، وصرخات قلبي المتتالية أن أتوقّف، وخشية الشرّطي والمدرِّبة من أن أصدِم أحدًا أمامي وأبدأ بالضغط على البنزين، وأزيد مستوى السّرعة والدّوران كما قالت لي المدرِّبة: "مثلما تضيفين الماء على الأرز لينضج خطوة خطوة؛ تدورين بالمقود"، وهكذا واصلتُ، ثم  قفزتْ فكرة مجنونة في رأسي فأتخيّل الأرز وهو يتبخّر وأنا أضيف إليه الماء رويدًا رويدًا لينضج! فيصرخ بي عقلي: "إِنَّكِ ترتكبين خطأً فادحًا؛ فالطريق الذي تسلكينه خطأٌ، دُورِي بالسيارة إلى اليسار"، فينهار الشرطي ويُمْسِك المقود: "ماذا تفعلين؟! استمرِّي في دوران كامل!... دوران كامل!!". تداركتُ نفسي وبعثرتُ كلّ ما تناثر في سماء عقلي وفقدتُ زمام الأمور، فَلَمْ أعلم اتجاهاتي.. وتمتمتُ بخوفٍ: "أين أذهب؟! هل أتوقف؟"، شَرَدْتْ أحاسيسي لالتقاط أنفاسها، فسرحتُ بأفكاري لينطق لساني من فرط الارتباك: "سامِحْنِي!". فخطّ بقلمه: "راسبة".

 هززتُ رأسي بأسف: "أَفَااا؟!".

نطق لسانه: "مسموحة دنيا وآخرة". كأنّه يرجو أَن أعدل عن فكرة قيادة السيارات.

لملمتُ نفسي من كَسْر الخذلان وخرجتُ أبحث عن الوسيعة بعد ما ضاقت أنفاسي: انفجار.. دخان.. بكاء وعويل.. حريق، تَضَارَبَ مَسْمَعِي، أخذتُ نفسًا عميقًا كرحلة في غياهِب عقلي أبحث عن سفوح أيامي لِتُطِلَّ من نافذة السعادة.

كانت أكثر اللّحظات رعبًا فلم أشعر بمثلها من قبل، ونزلتُ من السيارة... خرجتُ إلى الشّارع والشّمس ساطعةٌ، لم تَدَعْ مجالًا للأمنيات التي تحاول البزوغ متتالية، التفتُّ لأرى مَنْ ينتظر دوره، رأيتُ ابتسامة على وَجْه المتدرِّب، لقد كانت تشبه ابتسامة انتظاري!

حين رأيتُ كل شيء، كلَّ ذلك التّوتر والخوف والتردُّد، أدركتُ أنّه لا يُمكن لأَيِّ شيء في الدنيا أَنْ يُنزع الخوف من قلبي إذا لم أقتله وأطرحه أرضًا.

بعد خروج الشرّطي وابتعاده عن السيارة، ركبتها، وجلستُ على المقعد ويداي ترتجفان، دخولهما لمراسم العزاء لم ينتهِ، كانتا تعزِّيان نفسيهما، حاولتُ أن أفرِّقَهما لتنسيَا ما اقترفتاه... إِنَّ ما أفكّر فيه لم يكن صحيحًا؛ فَهُمَا تعانيان الآن من ذنب تأنيب الضّمير.

هنا في هذا المكان الفوضوي الذي يقطن تفكيري الآن هو الأَسَى، وغضبٌ عارمٌ على كل ذلك الوقت الذي قضيتُهُ في التعلُّم فلم أَرَ ثمار نجاحه، فلم يكن أمرا سهلًا كما كنت أتوقع، ويتطلب إصرارًا وعزيمةً جبَّارةً لأستطيع أن أكمل ما بدأتُهُ فليست الهزيمة من الأمر شيئا.

حسنًا.. هكذا أُعَزِّي نفسي وأُعَظِّمُها لكفاحها وجهادها في إثبات موقفها. لا الذكريات تضحك لها سنوات العمر، لطالما أردتُ أن أتمرَّد على مخاوفي، ومعايير منطقة الراحة التي تحتجزني لإبعاد الصّدمات.

لا يمكن للمرء أن يكون قنوعًا بسهولة فهو يطمح للمزيد من تحقيق تلك الأحلام حتى إذا كانت مُستحيلة المنال، تبدو بسيطة للوهلة الأولى، ولكنْ عندما تشرع في تطبيقها تطفو الصعوبات لتشكّل عراقيل قاهرة، فلا شيء يأتي بسهولة، هكذا تُرَدِّدُ المدرِّبة: "ثَابِرْ تَنْجَحْ"!

 حين ندرك الأمر يصبح المعنى مجرد ألفاظ مُنمَّقَة لا تسترعِ الانتباه، وتستمر الروح للبحث في العُمْق، نَعِي أنّ الذّات بدأت تتغيّر وتنحرف عن طريقها المعتاد، فتبدأ في رحلة اللّوم والعتاب، لذا يجب المُصارحة بالغضب لاضطراري للدفاع عن المسار المحدَّث، بعد ذلك أعتذر لنفسي على الأخطاء التي سلكتُها جهلًا منّي، لكن أقر بأن ّ "الضّياع الحقيقي هو أن تجد نفسَك على مسافة بعيدة جدّا من الصّواب دون أن تتململ أو دون أن تحدّثك نفسك بأن تتدبّر في الأمر لعلّك تنأى بذاتك عن الخطأ".

  عدتُ أدراجي أجرّ خيبة نالت منّي فأنهكتني، كان طريقي وعرا، تخلّيت عن تلك الآمال خلفي، وعدت إلى اللّاشيء الذي ينتظرني.

أخلد للرّاحة، وألتقط أنفاسي وأحدّق في دنيا تعبر من أمامي، يوقظني صوت أمي من حالة التّيه التي تجرفني: "هل ستستمرين في التدريب على السياقة؟"، ليس هناك ما أخشى سقوطه، فأبتسم لها: "نعم سأستمر، ثابر تنجح".

تعليق عبر الفيس بوك