ناصر أبو عون
لقد كان الشيخ العارف بالله حمود بن عيسى الطائي (1907 - 1977) من أهل التصوف؛ تتشوّف نفسه الواعية الأمّارة بالحب إلى التطهر من أدران الفكر الماديّ، والتسامي فوق شوائب التوحيد التي وصمها البشر في الصفات العليا والأسماء الحسنى للذات الإلهية، والاستعلاء علي الطين والتحوّل إلى مكانة وسطى بين النور الأدنى والأنوار العليا التي لا يبلغها إلا نبيّ، والسباحة في بحور الصفاء الروحى والكمال الأخلاقى.
سار الشيخ حمود الطائي في طريقه إلى الله، أصلب عودا، في يُمناه مصابيح القرآن يستضيء بها عتمة الطين الآدميّ، وفي يُسراه أوراد الذِّكر جُنّة يدخل بها على القُساة فتلين قلوبهم، ويطرق بها أبواب القلاع المنيعة فتتداعى مصاريعها، واستمسك بدينه فنجا من عثرات الحجر ونكايات كلُّ كذابٍ أشِر، وغالب الدنيا في حربٍ ضَروس فانقادت له بعد جموحها، وتعالى على كبوات البشر؛ فكان أملك لنفسه من الزلل، واستوثق العروة الوثقى على معاقد العزيمة من نفسه فلم تصبه مخمصة ولا وجل، وتحصّن بربّ القرآن وآياته فما وهنت عزيمته ولا فتر ولا ملّ، وضرب على نفسه الأمّارة بالحبّ أسوار المنعة بذي الجلال والإكرام، واستحرّ إبليس الجن وأعوانه من شياطين الإنس فدحضهم، وواصل السير إلى ربّه لا يفتر عن أوراده وظلّ لله متبتلا عابدا من مطلع الفجر، إلى الرواح بعد الظهر؛ يلمظ بالآيات في حِلّه وسيره حتى إذا أدلج ودخلت العشاء الأولى صلّى الجماعة ونام جسده على وِتره واستيقظ قلبه على ذكره.
دبّج الشيخ حمود الطائي قبل وفاته كتابا مازال مخطوطا يحتاج إلى تحقيق، وإعاد تدقيق، ومراجعة على أيدي البحّاثة والدارسين؛ بعنوان (عين الأسرار)، وفيه وضع بعض الأوراد التعبّدية الشافية، والوصفات الدوائية الناجعة، والرُّقى الدينية المجربة، وطرق صوفيّة شائقة؛ فقد كان الشيخ من المتصوفة الزاهدين؛ ويتحلّى بسمات خاصة يمتاز بها أهل الصّفّة والخلوة المتعبدين من أهل عمان؛ أوردها المستشرق [روبيرتو روبيناتشي – 2006] في كتابه "العزابة" واصفا النُّسّاك الأباضية بأصحاب النهج القويم؛ - ونورِدُ بعضها هنا بتصرّف – فقد ذكر أنهم “يلوذون بالزُّهد في مباهج الدنيا، ويتجردون من زخارف الحياة، ويتحلّقون حول العلماء، ويصاحبون الاتقياء، ويواظبون على الأوراد، ويرتدون البياض من الثياب، ويتقللون من عدد الزوجات ويلتزمون بحفظ القرآن، ويأتون المواعظ، وينصاعون للأوامر ويجتنبون النواهي”.
إنه الشقيق الأكبر للشيخ القاضي هاشم بن عيسى الطائي و[جدّه لأبيه هو (الشيخ القاضي سعيد بن عامر بن خلف الطائي البطاشي المسكدي)، وكان حيًّا إلى سنة 1264هـ وهو من أعان (السيد مهنا بن خلفان البوسعيدي) في تحرير كتابه الأثير والمعتبر "تهذيب الأثر في تلخيص جامع بن جعفر"، وأحد أساتذة (الشيخ المحقق سعيد بن خلفان الخليليّ)، وأخو جده هو (حمد بن سعيد بن عامر بن خلف العقريّ النزويّ)؛ كان حيًّا إلى سنة 1297 هـ وهو أحد رجال (دولة الإمام عزان بن قيس)، وعمُّه (الشيخ محمد بن عامر بن سعيد الطائي) مدرس (الإمام الخليليّ) علومَ النحو والعربيّة، ووالده (صالح بن عامر بن سعيد؛ قاضي مسقط، وجدّه من ناحية أمه (العلامة القاضي الزاهد سعيد بن ناصر بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد الكندي)].
قيل كان الناس يغبطون الشيخ حمود بن عيسى الطائي ويتمنون منزلته، يتحلّى بالرويّة ويجهد فكره في طلب الصواب أنّى كانت موارده،لا بالملول فيسأم ويتضجّر، ولا بالمأزور بالخطايا والذنوب فيُستدرَج، واسعٌ في فهمه، مكينٌ في حفظه، أمينٌ في عمله، عظيمٌ في بيته، راوية لأشعار العرب، وتاريخهم، وحوى في ذاكرته التي لم تخنه يوما من مطلع صباه حتى وفاته، أنسابهم ومواقعهم وحروبهم، وجمع بين سويداء قلبه القرآن وأحكامه، فكان من أهل القرآن وخاصته؛ فقد روى ابن ماجة (215) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ"؛ وقال المناوي رحمه الله: "أي حفظة القرآن العاملون به هم أولياء الله المختصون به اختصاص أهل الإنسان به، سموا بذلك تعظيما لهم كما يقال: "بيت الله"، وجاء في "فيض القدير" (3/87) قال الحكيم الترمذي: "وإنما يكون هذا في قارئ انتفى عنه جور قلبه وذهبت جناية نفسه، وليس من أهله إلا من تطهر من الذنوب ظاهرا وباطنا، وتزين بالطاعة ، فعندها يكون من أهل الله".
وقيل إن حفظه للقرآن وإتقانه لآيات الأحكام أوكلت إليه شؤون القضاء لمدة يسيرة من الزمن بتزكية من السيد أحمد بن إبراهيم البوسعيدي في ولاية بركاء نيابةً عن أخيه القاضي الشيخ هاشم الذي خرج في إجازة طارئة. فلما اختلط القرآن بروحه وسكن الحشا فأضاءه، وجرى على لسانه مجرى الماء في الأفلاج؛ لا ينضب معينه، ولا يتكدّر ماؤه، ولا تجف منابعه، أنعم الله عليه بأن أدخله في حوزة القرآن حتى وفاته فاشتغل بمدارسته وتحفيظه بمسجد ومدرسة الفاضل (طالب بن محمد الزكواني) بولاية (مطرح)، واتخذ في (حلة العريانة) منزلا له كان معروفا باسم "بيت الشريف".
وإلى جانب القرآن كان الشيخ حمود الطائي مغرما بعلوم التأريخ وسير الأقدمين، وآثار الأولين فتتبع الأحداث في بطون الكتب، وانتقاها من صدور الحفاظ؛ ويروي بعض من عاصروه أنه كان يسرد على مسامعهم كتاب (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان) بجزئيه للعلامة نور الدين السالمي، مسكونا بالحكايا ومشغوفا بالتاريخ، وَلُوعًا بالسرد، كاشفا عن كل مكنون مستور.
ومن حسن الطالع أن جمعته الأقدار بالشاعر سليمان الكندي الملقب بـ (أبو سلام)، وبمباركة من والده انطلقا معًا في أول رحلة خارج عُمان صوب الهند لزيارة السلطان تيمور بن فيصل؛ فاستأنس بهما، واستحب صحبتهما، فأنزلهما في قصره ستة أشهر بمنطقة (كيسر) الهندية، والتي لفرط جمالها، وحسن طقسها، وملاحة نسائها خلبت لُبّ (أبو سلام) فأنشد فيها:
[ظبيات ربوة (كيسر) يرمين
بسهام لحظ في الحشا يُدمينا
يلعبن بالألباب لعبة ساحر
بأكفهن عقولنا يسبينا ]
فلمّا عاد من رحلته إلى الهند وبعدما انكرت سبحة الدهر، وارتقى السلطان سعيد بن تيمور سدّة الحكم في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين استوظفه وخطّ له مرسوما بتولي (دائرة التركات والأوقاف) في (مسقط العامرة) ليكون مِعوانا وساعدا للسيد هلال بن محمد بن سعيد البوسعيدي، ثم انتقل إلى صحار ليكون وكيلا للأوقاف فيها وعونا للوالي السيد سلطان بن حمد السمار وأقام فيها سبع سنين دأبا واتخذ بيتا له بجوار قلعتها مطلا على بحرها.
عشق الأسفار وتنقل بين الكويت والبحرين وجوادر والهند وبلاد الحجاز واستأدى فريضة الحج والعمرة، وكانت له زيارات استجمامية و(سبحات روحية) إلى فلج بوسمّان وهو أحد أفلاج قرية بوشر القديمة وقد رتب عند منبعه مصلى صغيرا يتعبد فيه، وأنشد فيه:
[إن بو سمّان نهر
كاد أن يجري شفاء
///
كل من يأتيه يسعى
لم يجد في الجسم داء
///
إن بو سمّان نهر
عن طبيب ودواء
///
كل من يأتيه دوما
لم يجد في الجسم داء]