خليفة بن عبيد المشايخي
ارتبطت الحياة منذ الأمد ارتباطا وثيقا بأعمال وأفعال الخير والبر والإحسان، وإعانة المسكين وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، وتشكلت من جراء ذلك، سماوات من اليسر ومساحات من الفرح والفرج والابتهاج، وتكونت لدى الإنسان نظرات مليئة أملا وتفاؤلا، ورغبات في حب العيش والعمل والإنتاج، ليكون التوازن والتساوي القاسم المشترك بينهم، أي لا يتقدم جانب على الآخر، ولا يطغى جزء على مثله، كأن يكون مثلا انعدام الخير وطغيان الباطل، فإنَّ في ذلك هلاكا وأذى، وضررا جسيما ولظى.
ولما كان الجزاء من جنس العمل، فإنه من غير اللائق التنكر لمن لهم حق علينا كالوالدين والأقربين وغيرهم، وليس من الأخلاق والفضل اعتماد مسألة عدم الاهتمام بذاك لأنه ليس من شأني ولا يخصني، فكما هو معلوم أن رب العزة والجلال رحيم وأمرنا برحمة بعضنا، فحتى ذاك الكبير في منصبه وماله ومركزه وقدرته، مطلوب منَّا أن نرحمه إذا حاد عن أمر الله، وإذا زاغ عن معرفته جلَّ جلاله حق المعرفة؛ لأنه من يأتي االله جل جلاله يوم القيامة وهو لا عمل مقبول له، فهو في مصيبة وخسارة، وذاك الذي لا يُقدم لحياته وليس في حياته، فهو أيضا في مصاب جلل وخسارة عظيمة فادحة.
فلا ولد ينفع وقتئذ، ولا مال يشفع، ولا جاه ولا كرسي ولا شيء من هذا وذاك يغني، فإذا خفَّت الموازين- والعياذ بالله- وتطايرت الدواوين بالتقصير، وكبرت الذنوب وتعسرت ذاك التعسير، فلربما دعوة في ظهر الغيب من مُسنٍ تُنجيك، ولربما رحمة منك انهالت على مقعد أو طاعن في سنه تأويك تحت رحمات الله وظله، يوم لا ظل إلا ظله تبارك في علاه.
إن مجتمعنا العماني منذ عهده مجتمع فطر على الإسلام الذي لا يقبل سواه، فكان مجتمعا مليئا بالرحمة والتعاضد والتآزر، ولم تكن العادات الدخيلة معمول بها في القدم من قبله، وإذا أتت اليوم فإنها منبوذة بلا ندم.
وحينما نرى فعلا فيه انتقاص في الرجولة والشهامة والمروءة والعقوق، فإنَّ ذلك لا يدوم، ولا يستمر في اتجاهه لأنه بالعتب والنهر والزجر والانتقاد لا يقوم، ولأنه لقوة المجتمع وناسه وأربابه وعاداته لا يروم.
ومن هنا فلقد حزَّ في نفسي ما رأيته بدار الرعاية الاجتماعية بالرستاق إبان زيارة السيدة الجليلة حرم جلالة السلطان المعظم- حفظها الله ورعاها- لها؛ إذ إنَّ زيارتها كشفت عن وجود هذه الدار التي لم نكن نتوقع أن توجد في مجتعمنا، ونزلاؤها أمهات وآباء عمانيون لم يجدوا المحيط العائلي والأسري المناسب. ورغم ما أحزنني، إلا أنني سررتُ للغاية لهذه اللفتة الحنونة من السيدة الجليلة، التي قررت أن تربت بيدها الكريمة على أكتاف هؤلاء المسنين، وتحفزهم وتطلق في نفوسهم طاقات إيجابية وبسمة أمل رائعة، تُنعش القلوب والنفوس، جزى الله السيدة الجليلة عنَّا جميعًا خير الجزاء.
إن ما شاهدناه حقيقة لم نكن نتوقع أنَّه موجود ومعمول به وقائم بيننا، في مجتمعنا الذي عُرف بخصال الخير وبالأخلاق الإسلامية الكريمة الحميدة، التي تنبذ هكذا أفعال وتصرفات. فربما بعض نزلاء هذه الدار قد تخلى عنهم أولادهم، وهنا أتساءل: كيف لابن أو ابنة ترمي أو تضع أمها أو خالتها أو عمتها أو عمته أو خالته وقريبته أياً كانت وكان في دار رعاية المسنين. ألا يعلم من فعل ذلك أن بكبار السن نُرزق ونُرحم وتغفر ذنوبنا وتكفر سيئاتنا.
يقول الحق تبارك وتعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ صدق الله العظيم.
قاريء الكريم إن الأيام دول، فإذا هان عليك في وقت من الأوقات قريبتك أو قريبك أيًا كانوا، فبادر بتصحيح ما اقترفته من فعل تأثم عليه إنسانيًا وأخلاقيًا، واتق الله في نفسك. فكيف يهون عليكم أهلكم أن تضعونهم في دار المسنين وهم الذين ربوا وتعبوا ودللوا وسهروا الليالي من أجلكم، فالذي ليس له أهل لا بأس به، ولكن الذي لديه هذا وذاك كيف يرمى في دار ليتكرم عليه ناس ليسوا أرحامه.
أخي في الله.. نصيحة لوجه الله لا تترك أباك أو أمك، وإن كنت فعلتها لظرف ما، فبادر بإصلاح ما أفسدته يداك وعقلك، فبتلك المرأة المسنة أو بذاك الشيخ العاجز ستُرحم، وانظر إلى عيالك فإنَّ لك يومًا معهم، فاجعله يومًا لك لا عليك، تسعد به بينهم ومعهم عندما تكون أنت في أعمار وسن أؤلئك الأهالي الذين شاهدناهم في تلك الدار، فارحموا من في الأرض يرحمكم من السماء.