د. صالح الفهدي
لا ينقصُ أُمتنا التي تكالبت سهامٌ مسمومةٌ من جوانبَ شتَّى ما يثيره بعض من لا ينتسبونَ للأمةِ فكراً سائداً وعقيدة راسخةً- وهم محسبون من أبنائها- ويزعمون أنهم مثقَّفون وهم على شاكلةِ ممن أسماهم الكاتب أحمد كمال: "البوقي الذي لا يكل ولا يمل في ترديد أقوال غيره واعتبار الثقافة الغربية هي النموذج الحقيقي للثقافة"..!
هذا "الإستهبال" الذي يُمارسهُ البعضُ منهم إنَّما ينمُّ في نظري عن ضغينةٍ يضمرونها للمجتمع، واستخفافٍ لعقيدتهِ، وفكره، ومنهجه وإلَّا لما نادوا بالعلمانية في فصل الدين والدولة، بل ورأوا أن دولنا الإسلامية قد ارتكبت خطأً في وضعِ الإسلامِ ديناً رسمياً للدولة!
ولم يقتصر الأمر على التافهين، والسفهاء أن يتجنُّوا على أخلاقيات المجتمعِ ومُثُله؛ بل يأتي من يركبُ موجة "خالف تُعرف" ممن نتوسَّم فيهم النظرة المتعقلة للأمور فيتقوَّلون بما يخالفُ معتقدات الناس، وأفكارهم، وينظرون إليهم على أنهم متخلِّفون، ورجعيُّون، ويحسبون أنفسهم مثقفونَ ينيرونَ عقليات الناس بادعاءاتهم، والمثقف على خلافِ عقلهم فهو "يملك قدرًا من الثقافة التي تؤهله لقدرٍ من النظرة الشمولية وقدرٍ من الالتزام الفكري والسياسي تجاه مجتمعه وهو مبدع كل يوم يستطيع بهذا الإبداع الثقافي أن يفصل بين تهذيبات القول وتجليات الفكر بين الثقافة وعدم الثقافة بين التحضر والتطور" كما يقول الكاتب أحمد كامل في مقاله "ثقافة أم استثقاف".
يهوِّلون أمر الدِّين وكأنَّما هو وقِرٌ ثقيلٌ فوقَ رؤوسهم لا يطيقونَ حمله، وينادون بالعلمانية التي يرونَ أنها خلاصٌ للبشريةِ من الأديان..! وهل من المعقولِ أن لا يُدرك هؤلاء حقائق العلمانية التي نفضت أياديها من الدين، وتنصلت من روحانيته، فأضلَّت العقول، وأعمت النفوس؟! هل من الممكن أن يكون هؤلاء غفلى عن ارتفاعِ معدلات الأمراض النفسية في المجتمعات الغربية بصورة رهيبة؟! إذن لنعرض عليهم بعض الإحصائيات في هذا الشأن لعلَّ عقولهم تعودُ إليهم فيرشدون. نذكرُ على سبيل المثال ارتفاع معدلات الاكتئاب في الولايات المتحدة عام 2021، إلى 32.8%، مما يؤثر على 1 من كل 3 بالغين أمريكيين، كما نشير إلى إحصائية أُخرى ذكرى الإتحاد الوطني للأمراض النفسية (NAMI) أن 21% من البالغين الأمريكيين يعاني من مرض عقلي/ نفسي، أي (52.9) مليون نسمة من الأمريكيين مرضى نفسيين..! كما أن واحد من بين كل ثلاثة من اليافعين الأمريكيين (18-25) يعاني من مرض عقلي/ نفسي (حسب احصائيات 2020).
لسنا بحاجةٍ إلى أن نوضِّحَ لهؤلاء المستهبلون أثرَ الدِّينِ على صحةِ الإنسانِ النفسية، ولا على اتزانِ عقله، واستقامةِ فكره، واعتدال شخصيته، وسلامةِ بصيرته، بيدَ أننا نريدُ أن يعي هؤلاءِ المتعالمون أكثر من العلمانيين أنهم إن كانوا ملحدين، أو يعتقدون بخلاف ما يعتقده المجتمع فليحترموا المجتمع الذي يعيشون فيه، ويقدروا عقيدته، ويحترموا دستوره، ويجلَّوا أخلاقه، فالإستفزازات إنما تصدرُ ممن لا يقيمُ وزناً لكلامه، ولا يضعُ اعتباراً لغيره!
يخلطُ هؤلاءِ بين أمرين: أولهما الدين وتشريعاته، وثانيهما ممارساتهم التي قد تخالف التشريع الإسلامي في واقع الحياة، فيتخذون من هذا الخلط، ماءً عكِراً يخوضون فيه ليتصيدوا أخطاءً بعض المسلمين المتمثلة في خلل النظام الإداري في بيئات العمل، فيما يتعلق بالصلاةِ في أوقات العمل، فيرون أن ذلك لم يكن ليكون لولا أن الموظفين يحرصون على إقامةِ الصلاة..! في حين أن القضية في أساسها لا تتعلقُ بالدِّين وعباداته، وإنَّما بالنظام الإداري الذي يعاني من خلل لتنظيم وقت الصلاة بحيث لا تضرَّ بسيرورة العمل، وقضاء المصالح.
قد يتبني بعض هؤلاء الفكر العلماني ركوناً لأسباب مختلفة- لا أريدُ أن أُشيرُ إليها- مع أن العلمانية لها أسبابها التاريخية في بلاد المنشأ، فينادون بتطبيقها في بلدان مسلمةٍ لها عقيدةٌ مكينة، وقاعدةٌ إيمانيةٌ راسخةٌ، وكأنَّما قد اتخذت هذه البلدان لنفسها إطاراً كهنوتياً يعزلها عن العالم المتحضر، متغافلين ما يحيقُ بالدول العلمانية من انحدار أخلاقي أخرجها من الفطرة البشرية السليمة، بل ومن الغريزة الحيوانية!
ثم يأتي مستهبلٌ آخر ليُنكر على المدارس أن تقامَ فيها شعائر دينية، مدَّعيًا أن المدرسة هي موطن التنوير والمعرفة ومسائلة الحقائق، إلى آخرِه، وهُنا يُخرجُ الدِّينَ من التنوير والدِّينُ– ليتُه يرشد- هو أساسُ التنوير، فما فَهْمُهُ للتنوير في قول الحقِّ سبحانه وتعالى: "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة: 257)، أليس هذا النور هو أرقى تجليات التنوير؟!
مثلَ هذا المستهبل الذي يمضي على قاعدةِ "خالف تُعرف"، قد أغفلَ حقيقة أن التربية قد سبقت التعليم في مهمة المدرسة، لذلك سُمِّيت الوزارة (وزارة التربية والتعليم)، فهي تُربي أولاً قبلَ أن تعلِّم، كما أنه قد جهل أنَّ الصلاة ليست مجرد ركعات جوفاءَ تقام، وإِنَّما تأسيسُ لنظامِ حياةٍ، في جانبها الروحاني (الاتصال بالله)، وفي جانبها الإيماني الإعتقادي (التسليمُ، والسكينة والطمئنية) وفي جانبها التطبيقي (الانضباط والسموِّ القيمي)، وبذلك تعد الصلاةُ قاعدةً للتعليم.
أقول لهؤلاءِ المستفزُّون ترفَّقوا بهذه الأُمة، فهي لا ينقصها غيَّكم، ولا تحاملكم، ولا استفزازتكم، وإذا كان لكم من ثمَّة معتقدٍ منحرفٍ عن صراطها فاستروا على حماقاتكم، وتهذبوا في أفكاركم، واحترموا المجتمع الذي تعيشون فيه إن كنتم تريدون الإحترام المتبادل، فأنتم بهذه الاستفزازات إنما تناقضون أنفسكم، فلا تلوموا من لا يقيمُ لكم وزناً ولا يضعُ لكم اعتباراً بعد أن كان كذلك!