خالد بن سعد الشنفري
لا أدري لم كان يشدني منذ السبعينيات من القرن الماضي، اسم "مدينة الحق"، تلك المدينة الحالمة وسط الضباب الرابضة على على مرتفعات جبال طاقة، في ظفار.
تمكنت من زيارتها لأول مرة في منتصف السبعينيات برفقة صديق عزيز من أبنائها وزميل دراسة كان قد استقر مع عائلته فى صلالة، وتيسر لي بمعيته زيارتها لعدة مرات آنذاك، زرنا خلالها سكونها المكونة بما يعرف بـ"الستريت" وكانت دائرية الشكل أشبه بالقبة مشيدة على فروع أشجار الزيتون البري (الطيق) العملاقة، ومركز فرقة خالد ابن الوليد الوليدة فيها والتي تعد أول فرقة من الفرق الوطنية طالت أقدامها جبال محافظة ظفار في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وتهيأ لي بذلك الالتقاء ببعض رجالات تلك المرحلة المحملين بتجارب الأسفار والنضال والنشاط والحياة.
و"فرقة صلاح الدين" هي أول فرقة وطنية تتأسس في ظفار في العام 1970 لتشكل درعًا رديفًا للجيش السلطاني العماني، وتشكلت هذه الفرقة من لفيف من مختلف أطياف رجالات ظفار العائدين الأوائل الذين أنشقوا عن ما كان يسمى بـ"جبهة تحرير عمان والخليج العربي" آنذاك وقد اختارت مرباط (ظفار التاريخية) مقرا لها.
وفرقة صلاح الدين في مرباط وفرقة خالد ابن الوليد في منطقة (خيشول) مدينة الحق الحالية بجبل طاقة وكافة الفرق الوطنية الباسلة، توالت تباعا حتى انتشرت مراكزها على كافة مرتفعات جبال ظفار وعلى امتداد سلسلته من الشرق إلى الغرب والمميزة بلون صبغتها الأخضر العشبي الداكن، والتي لا تخفى مناظرها على أي عين، أينما وليت وجهك ناحية أي جزء أو رقعة من هذه السلسلة الجبلية الشامخة إلى اليوم. إنها قصة لا أدعي الإلمام بحذافيرها إلا أنه ما زال بعض مما سمعته وعرفته عنها- آنذاك- عالق بالذاكرة، وأحببتُ أن أسردها لكم قبل أن تمحى منها للذكرى وللتاريخ.
تمركزت فرقة خالد ابن الوليد في منطقة (خيشول) مدينة الحق حاليا، على يد مجموعة من أبناء المنطقة، وسأحاول سرد بعض أبرز حيثياتها بعد مضي أكثر من نصف قرن من الآن على أحداثها.
بعد أشهر قلائل من تولي السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- زمام الحكم في البلاد عام 1970، اجتمعت مجموعة فاضلة من قيادات وأفراد ما كان يعرف بـ"الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربى" (حسب مسماها آنذاك)، وكان معظمهم من أبناء هذه المنطقة المنتسبين للجبهة، وناقشوا النهج الذي أصبحت عليه الجبهة وفي مقدمة ذلك الإعدامات التي تزايدت وتيرتها والأفكار الماركسية التي تعاظمت شوكتها، والأهم من كل هذا وذاك، خشيتهم من خبو شعائر الدين الحنيف بالتدريج وسط مجتمع نشأ وعاش في ظله وتعاليمه وعلى الفطرة والحنفية السمحاء، فقرروا من هذه المنطقة (خيشول سابقا ومدينة الحق حاليًا) مجابهة ذلك والتصدي له بما يُسّر لهم رغم صعوبة وخطورة الموقف. وفي سبيل ذلك، قاموا أولا باعتقال مجموعة من رفاقهم في الجبهة ممن عرف عنهم الغلو في هذا النهج الجديد للجبهة وبثه بين أعضاء الجبهة والمواطنين البسطاء، فاحتجزوهم في منطقه تسمى "أمبرودت" جنوب مدينة الحق حاليا كرهائن، وطلبوا الاجتماع مع قيادة الجبهة، وذلك لضمان جلوس قيادة الجبهة معهم والتناقش معهم في هذا الأمر، وأيضا تحسبا كي لا يتم اعتقالهم أثناء الاجتماع. استجابت الجبهة لمطلبهم لأن الحدث كان وقعه عليها جللا، وتقرر أن يتم الاجتماع بهم مع بعض قياداتها فى وادي دربات. وأثناء ذلك ومن منطلق حسن النوايا، ناقشت هذه المجموعة موضوع إطلاق سراح زملائهم الرهائن الذين احتجزوهم، فوافق معظهم على ذلك، وتمَّ إطلاق سراح هؤلاء الزملاء الرهائن، وامتنع اثنان من هذه المجموعة عن ذلك، وقرروا على إثرها النزول على الفور إلى طاقة لتسليم أنفسهم لسلطة الحكومة هناك.
عُقد الاجتماع لكنه لم يخرج بنتيجة كما توقع الزميلان وتفرق الجمع، خشيتْ هذه المجموعة من تعرضهم للاعتقال أو الإعدام كما حصل ونفذ بالفعل في بعض زملائهم، وخصوصا بعد أن نما إلى علمهم أن الجبهة أصبحت تتوجس أنهم سيلتحقون بزميليهم وتسليم أنفسهم وأسلحتهم لسلطة الحكومة، وخصوصا أنه قد تسرب أنها أطلقت عليهم مسمى "الثورة المضادة"، فهرب الجزء الأكبر منهم مشيًا على الأقدام، عن طريق النجد إلى شليم، وكان الهدف مبدئيًا الخروج نهائيًا خارج الوطن. أما الجزء الآخر فلم يفضلوا ذلك وتوجهوا مباشرة إلى قمم سمحان ووديانها العتية وتموضعوا هناك؛ ليتشاوروا بروية فيما بينهم فأُطلق عليهم لقب "المتمردين".
بعد أن وصلت المجموعة الأولى إلى شليم واستقروا بها وهدأت نفوسهم، تفاكروا فيما بينهم وتشاورو وقرروا على إثر ذلك عدم الخروج من الوطن، واهتدوا إلى إرسال مندوبين عنهم لرفع مطالبهم إلى صاحب الجلالة في مسقط، وقد وجه جلالته بنقلهم مع رفاقهم في شليم إلى صلالة عن طريق البحر من الشويمية، وبعد أن تشرفوا بمقابلة جلالته في قصر الحصن بصلالة وعرضوا عليه مطالبهم والمتمثلة في رغبتهم واستعدادهم للتصدي مع الحكومة للجبهة لما انحرفت إليه وللثأر من رفاقهم، بارك السلطان مسعاهم ومطالبهم وتمَّ تأسيس أول فرقة وطنية في محافظة ظفار هي "فرقة صلاح الدين" بمرباط في العام 1970، وقد شكلت هذه المجموعة مع آخرين نواتها.
كانت أولى مهمات فرقة صلاح الدين تحرير مدينة سدح مع رجال قوات السلطان المسلحة، فأبلوا بلاءً حسنًا، وتمكنوا بعد ذلك من التواصل مع زملائهم في جبل سمحان وأقنعوهم بالانضمام لهم ليشكلوا نواة أول فرقة في جبال طاقة؛ لتكون في وسط الحدث، وكان لهم ذلك، فخرجت "فرقة خالد ابن الوليد" من رحم فرقة صلاح الدين، وتمركزت في منطقة (خيشول) مدينة الحق بعد ذلك.
وفي العام 1972، شرف السلطان قابوس- طيب الله ثراه- منطقة خيشول وفرقة خالد ابن الوليد الباسلة بالزيارة، وعندما سأل عن اسم المنطقة رأى أن الاسم لا يستقيم مع أهميتها وبسالة ووفاء رجالها، فأطلق عليها منذ تلك اللحظة اسم "مدينة الحق" فكان الاسم على مسمى، وكان لفرقة خالد ابن الوليد دور كبير فى المنطقة منذ البداية. وانتشرت بعد ذلك تدريجيا إلى كافة مناطق جبال ظفار، وأصبحت ملاذًا آمنًا للسكان في الجبل، وكان يتوافد عليها كل من فقد الأمان من مختلف مناطق جبال محافظة ظفار لغرض وللحصول على الغذاء والماء الصالح للشرب وفرص تعليم أبنائهم "ولو تحت ظل شجرة"، والعلاج الذي كان يقدمه لهم الطبيب الطائر لسلاح الجو السلطاني العماني، كما وفرت الحكومة المعونات الغذائية الأساسية لهم مجانا، وأقامت دكانًا يبيع بسعر التكلفة، وعينت عليه أمناء مدنيين وأنشأت مسجدًا بجوار الفرقة لأداء الشعائر الدينية، وعُين مندوب مدني لتخليص كافة المعاملات الإدارية للسكان من الإدارات الحكومية بصلالة. تطور الأمر بعدها إلى مساعد، ثم نائب، ثم والي بالمنطقة، وتوالى تسليم العديد من أفراد الجبهة أنفسهم للفرقة مع أسلحتهم.
هكذا كانت مدينة الحق بداية إشعاع حق، انتشرت بعدها مثيلاتها في مختلف جبال ونجد ظفار وباديتها، وفى كل رقعة، وعززت تباعا وتدريجيا بنفس المرافق حتى أصبحت متكامة المرافق الأساسية، من مسجد ومدرسة بدأت من تحت ظل شجرة إلى ظل خيمة إلى مدرسة حديثة متكاملة المرافق، وعيادة الطبيب الطائر التي تحولت إلى عيادة ثابتة، ثم مستشفى صغير متكامل. أما المندوب المدني الملحق بفرقة خالد ابن الوليد بخيشول، فتحوَّل إلى مركز إدارى ثم مساعد نائب، ثم مكتب نائب والي بالمكاتب الإدارية والخدمية الشاملة المرافق والخدمات.
مدينة الحق.. نِعم الاسم والمسمى.. وطابت روح من أسماها.