نحو عبادة أكثر فاعلية

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي

 

ربما يكون واحدا من أهم الأسباب التي زادت من ثقة المجتمعات في العلوم التجريبية هو أن هذه العلوم تهدف إلى تحقيق منجز واضح المعالم، فالعلاجات الطبية تهدف إلى معالجة المرض، ولذا فمن السهل حتى على غير المختص تقييمها.

فمثلا الإيمان بوجود مركب "الدي إن إيه" فعلى الرغم من صعوبة قبول فكرة مفادها أنَّ جميع الكائنات الحية تشترك في وجود مركب واحد بينها، وعلى الرغم من أنه مرَّ على هذا الاكتشاف حوالي 50 سنة فقط، إلا أنه غدا حقيقة علمية لا نقاش فيها، والسبب في ذلك كثرة الأهداف التي حققها الإنسان وأنجزها من خلال الكشف عن وجود هذا المركب، فالكشف عن أسباب الأمراض الوراثية وكيفية معالجتها، وتغيير المواصفات الوراثية للنباتات والأطعمة المعدلة جينياً كلها أمور ملموسة لا يمكن لأحد أن يشكك فيها.

ولهذا خطت عدد من الدراسات في المجالات الاجتماعية والنفسية الطريق ذاته واعتمدت على عدد من التجارب لفهم بعض الظواهر المرتبطة بالطبيعة البشرية، بل نجد أن بعض البحوث اتجهت لدراسة تأثير بعض القضايا الغيبية كدراسة تأثير الإيمان على سعادة الإنسان.

ومن هنا فلقد انقدحت فكرة في الذهن عند مطالعة هذه البحوث يمكن صياغتها عبر سؤال مفاده ترى هل بإمكاننا تطبيق هذا النوع من الدراسات لتقييم أثر العبادة على سلوك الفرد والمجتمع الذي تتركه بعض العبادات والتي أوضح القرآن الكريم وأشار إلى بعض أهدافها الرئيسية؟

والسبب في إثارة هذا التساؤل هو أن عددا من المسلمين في عصرنا الحاضر قد لا يلمس أثرا كبيرا ومميزا لهذه العبادات إلا في نطاق محدود، فعندما نرجع إلى عدد من العبادات الهامة التي وردت في القرآن الكريم وبعض مقاصدها التشريعية نجد مثلا في عبادة الصلاة قوله تعالى "إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، بينما لا قد يجد المسلم في واقعه العملي أثرا واضحا وبيناً لهذه العبادة المقدسة على الرغم من أنَّ المسلمين يقيمون الصلاة وفق الضوابط الفقهية التي يطرحها الفقهاء، بل لو امتلكت المجتمعات الإسلامية الجرأة في طرح أسئلة صريحة لنفسها فلها أن تسأل كم من أفرادها يرى في الصلاة ما كان يراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما يحين وقتها ويتَّجه إلى بلال بقوله "أرحنا بها يا بلال"؛ بل ربما يرى الكثيرون منِّا عكس ذلك فهو يراها أنها تكليف شرعي عليه أن يسقطه عن كاهله، وهكذا الحال مع الصوم، فالقرآن الكريم يشير وبصورة واضحة إلى أنَّ الصوم يهدف إلى التقوى "لعلكم تتقون".

ومرة أخرى نجد أن المسلم يطبق الأحكام الفقهية كما وردت في حال الصوم، ويقضي شطرا لا بأس به من وقت الصوم في العبادة بمعناها الخاص فتجده يحافظ على أداء الصلوات في المساجد وتجده أيضا يقضي وقتا في تلاوة كتاب الله، ولكن كل ذلك الجهد ربما لا يحقق الهدف الذي دعا إليه القرآن الكريم "لعلكم تتقون"، فأثر الصلاة في تقويم سلوك الأفراد والمجتمعات ربما يراه البعض أمراً غير ظاهر وكذا الحال مع الصوم فلا يجد الكثيرون منِّا بأنه يولد في نفسه التقوى التي أشار إليها القرآن الكريم.

إنَّ دراسة الأثر الاجتماعي والسلوكي لهذه العبادات من خلال إجراء بحوث تجريبية، ربما سيساعدنا كثيرا في تحقيق الأهداف التي أشار إليها القرآن الكريم، فإذا كشفت الدراسات عن تحقق هذه الأهداف فهذا يعني أننا في الاتجاه الصحيح، أما إذا كشفت هذه الدراسات أن هذه الأهداف تحققت بصورة محدودة ولا تصل إلى الطموح الذي نسعى له، فعلينا إعادة النظر في الآليات الحالية التي نقوم باستخدامها لتعليم النشء هذه العبادات، فهناك خلل ما علينا الكشف عنه وربما سنحتاج إلى القيام بمزيد من البحوث العملية القائمة على المناهج التجريبية ومن ثم إعادة صياغة أساليب ونمط تعليم النشء عليها، ويصاحب ذلك دراسات مستمرة لدراسة أثر الأساليب والمناهج الجديدة.

إننا نرى أن هناك فوائد جمَّة من وراء إدخال هذا النوع من الدراسات لتقييم الأهداف التي يمكن قياسها والتي سنها الإسلام في عدد من العبادات، فكما أن للتشريعات بعد غيبي فلا شك أنَّ لها بعض الأهداف الرئيسية القابلة للقياس، ومن خلال هذه الأهداف القابلة للقياس يمكننا القيام بدراسات علمية لتقييم الأدوات والأساليب المستخدمة في تعليم النش هذه التشريعات الإلهية وتحسينها لتحقيق الأهداف الإلهية المنشودة من ورائها.

 

كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس