الصراع الروسي الأوكراني وخيار الحياد

 

شريفة الكندية

 

بعد أن شهدت العصور الحديثة انتشار الحروب غير المنتظمة متخذة أشكالا عديدة كحروب العصابات والحروب بالوكالة عوضا عن الحروب التقليدية، يشهد العالم اليوم عودة إحدى صور الحروب التقليدية ممثلة في الاجتياح الروسي لأوكرانيا. المشهد الذي غاب لبرهة عن ساحة الصراعات الدولية الكبرى منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.

لم يكن هذا الصراع وليد اللحظة؛ حيث بدأت الأزمة الأوكرانية تطفو على السطح منذ سقوط رئيسهم الموالي لروسيا إثر احتجاجات عارمة عام 2014 تبعها ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. حدث ذلك في ظل صمت أمريكي أوروبي غير متوقع للوهلة الأولى، ولكن جاء الرد لاحقاً بنشر الحلفاء لقواتهم العسكرية في دول أوروبا الشرقية التي تتشارك الحدود مع روسيا، الأمر الذي أضرم النار لهيبا.

تقع أوكرانيا في المنتصف بين أقوى تكتل عسكري في العالم وثاني أقوى دولة من حيث المقدرات العسكرية، حيث يجمع الطرفين صراع تاريخي ذي أبعاد إستراتيجية. وبسيناريو أقل حدية، تتشابه السلطنة مع أوكرانيا من الناحية الجيوسياسة حيث تقع بين قوى متصارعة تتنافس كل منها على الهيمنة في الشرق الأوسط. وإضافةً لذلك التشابه الجيوسياسي، تشترك عمان مع أوكرانيا في أن ميزان قوتها العسكرية لا يرجح الكفة لصالحها إذا ما وضعت الأطراف المتصارعة المحيطة في الكفة المقابلة. وتحت ظل هذه الظروف وبجانب غياب الأمن الجماعي الخليجي، اتبعت السلطنة سياسة الحياد في علاقاتها الخارجية لتنأى بنفسها عن الصراعات الإقليمية وأيضا لتشكل خط دفاعها الأول عن أمنها القومي.

غير أن ما يخفف حدة الظروف الجيوسياسية في السلطنة، عدا أنها محاطة بالحماية الأمريكية أمنياً وأن قوة الصراع المحيطة بها أقل شدة من تلك المحيطة بأوكرانيا، أنها تتمتع بلحمة وطنية تظهر جليا على الصعيد الإثنوغرافي، وذلك بخلاف الخريطة الإثنوغرافية لأوكرانيا التي توضح أنها بلد منقسم بشدة بين هويات متخاصمة مما يجعلها ملاذا خصباً للصراع بين الروس والتحالف الغربي.

ولقد تم توجيه العديد من الاقتراحات والدعاوى لتحييد أوكرانيا وضمان عدم انضمامهما لأي تكتل عسكري دستوريا، الأمر الذي يصب في مصلحة كل من أوكرانيا للحفاظ على وحدتها وإبعادها عن حلبة الاستقطاب السياسي وجميع الأطراف المتصارعة بما فيها دول أوروبا التي تعتمد على الغاز الطبيعي الروسي وروسيا التي تخشى تمدد حلف الناتو لأوربا الشرقية، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل.

وبخلاف الاعتقاد الشائع، فإن خيار الحياد ليس سهلا؛ بل قد يصبح في بعض السياقات باهظ الثمن، يقود الدولة للمخاطرة أو التخلي عن بعض الفرص الاستراتيجية، إلا أن الظروف الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية قد تفرض هذا الخيار على الدولة والذي سيحميها حتماً على المدى البعيد ويدفع عنها أضرارا أكثر عمقا. ولذا تقدم حالة الصراع الحالية دروسا يجب الاستفادة منها لتعزيز نهج السياسة الخارجية الحالية والتمسك بالحياد مهما كلفنا من ثمن.

ذلك حتماً لا يعني الحفاظ على صورة ثابتة للحياد خصوصا في ظل التطورات السريعة التي يشهدها النظام العالمي والتي تضع هذا الخيار في محك الاختبار، بل يجب تبني المرونة والبحث عن أفضل السبل لوضعه في السياق المناسب. وربما قد تواجه السلطنة في قادم الأيام تحدي إيجاد تصور لشكل الحياد الذي يتناسب وسياستها الخارجية في ظل صعود بعض القوى العالمية والتي من المتوقع أن تجر العالم نحو نظام متعدد الأقطاب الذي من شأنه حتماً أن يعيد تشكيل موازين القوى في الساحة الدولية.

تعليق عبر الفيس بوك