الطائيون القضاة الشعراء (6)

قراءة في سيرة الشيخ القاضي هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي (1)

ناصر أبوعون

جاء الشيخ القاضي هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي إلى الدنيا من نسل أكباد حرّى إلى العلم، سليل بيت معجونة لبناته من طينة الكرم، تستضيء عُمُده بنجوم الأدب الزاهرة، وتستنير أسقفه بثريات الفقه المُشعة بأنوار العرفان الباهرة، وتختال جذوعه الراسيات بأصول الدين السابغة؛ فكانت أسرته، وجذور نسبه تستمطر شآبيب الغمام في ليالي الصيف الواصبة، فتصبح الأرض مخضرة تحت أرجلهم وهو قيام للخالق، تستطع في جنباتها النواصع المشعة، وتفرش عتمة الليل بالثواقب الوضاءة.

 تحدّر الشيخ هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي (1328هـ  - 1412 / (1910م - 1991) من شجرة نبتت بين ظهور قوم تقاة، وصيغت مضغته من نطفة طيّبة التربة كِنْديّ الأم أرومةً وحَسَبَا، وطائي الأب ظَهرا ونَسَبَا، ودبّت رِجله على أرضٍ سمائلية المحجةّ؛ أَصْلَتْ سيفَ المعرفة من غمده لِتَقُطَّ به رقاب الجهل، يأله إليها كلُّ من اسْتَأْدَى العِلم، ويُوجِف إلى مجالس علمائها الآوابون، ويستظل بحيطان مساجدها النازعون المنيبون لا يعرفون من الكلام إلا عقائله، وتخط أقلامهم الحق في صحائفه، هم الأبدال الصالحون، الواقفون بأبواب الله في الليل الساجي، الوافدون على مائدة القرآن لا يفترون.

فإذا ترجمنا له من ناحية الأب والعصب نسوق هنا شهادة الشاعر والتاجر الكويتي (عبد الله الصايغ) والذي كان يتنقل بين حواضر الخليج وله في عمان وطنٌ ومرسى أوردها في مقالة له  بمجلة (كاظمة الكويتية) في عدد شهر يوليو عام 1948 تحت عنوان: (كم من الزوايا في نفائس الخبايا) عشيّة يوم الأربعاء السابع من صفر عام 1358 للهجرة؛ وهذا نصّها: " وقد اجتمعت بالشيخين عيسى بن صالح قاضي القضاة وأخيه الشيخ محمد بن صالح الطائيين – تغمدهما الله برحمته وأسكنهما مع الأبرار غرفات جنته - وقد كان التعارف بيني وبينهما بالمراسلة قبل سبق المقابلة، فحصل الأنس وانزاحت الغمة ورأيت من فيض فضلهما ما هما به زعيمان، وفوق ما كنت أتصوره؛ فتذكرت بعد رؤيتهما قول (ابن هانئ الأندلسي في جعفر بن فلاح الكتاميّ قائد المعزّ أبي تميم العبيدي) التي يقول فيها:

كانت مسائلة الركبان تخبرني

عن جعفر ابن فلاح أطيب الخَبَرِ

///

حتى التقينا فلا والله ما سمعت

أذني بأحسن مما قد رأى بصري

أطلّ الشعرُ على الشيخ هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي في الهزيع الأول من ملاعب الصِّبا ومن سقيفة بيتهم السمائلي، قبل أن يتعلّم القراءة ويخطّ بأنامله ألواح الكتابة؛ فكلما تقلّب في فراشه، وحدّق بناظريه بلا ملل أو كلل في جذوع النخيل المتراصة والمزخرفة بالنقوش في سماء صحن بيت (العود) بقرية (الجعفرية) من ولاية سمائل الفيحاء؛ أَعْظَمَهَا وأَجَلَّ قدرَها، وأعَيا قريحته ليعرف كُنهَها ويفهم مقاصدها؛ فلمّا فكّ طلاسم الحروف، وربط على قلبه، وقبض على جمر العلم بعد لَأْيٍّ ومجاهدة، استكشف دُرر المعاني، في بيتين من جواهر الحكمة، وشعر الفخر ينتسبان إلى أبيه قاضي القضاة محفوران بإزميل الصبر والأناة على جذوع النخيل التي تسقف مجلس بيتهم يقول فيهما:

قصر رسى فوق الثرى وسما إلى

عالي الطباق ولا يزال رفيعَا

///

سكنت به من "آل طي" عصبة

ورثوا المعارف والعلوم جميعَا

وتفلّت الشيخ هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي من ربقة الجهل التي تطال الصبيان في نشأتهم الأولى، وسدل طرفه عن سفاسف الرغائب التي تستولي على عقول اليافعين في مهادهم، واستحدّ هِمّته، وزايل الدعة وملاعب الصبا، وتأبط رقيمه وجلس إلى مشايخ العلم، فحفظ ووعى، وعمد إلى كل ضرع حافل بالعلم فاستحلب عصارته، وسار في ركاب أهل الصّفة من الأبدال النابهين ونهل من أنهرهم، واستظهر كل ما درس وانطمس من تراثهم، وهجر كل ما يستصحب الأفن، وانصرف عن كل فعلٍ جلّاب للوهن، ولم يجاور إلا أهل التقى، ولم يصاحب إلا أولي النهى في صباه وشبابه وشيخوته.

ترجم له محمد بن راشد الخصيبي صاحب كتاب "شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عُمان" في بيتين من الشعر فشرح وأوجز جاء فيهما:

وفقيه من "آل طيّ" نبيه

من كِبارٍ أَجِلةٍ وأُبَاةِ

///

"هاشمٌ" ذاك نجلُ عيسى قَوافٍ

عنه جاءت وضاءةً بهجاتِ

ومن حسن الطالع، وجلائل الأقدار أن يتربى الشيخ هاشم بن عيسى بن صالح في حِجِر جده العلامة الزاهد سعيد بن ناصر بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد الكندي؛ الذي حرص على بث رسائله التنويرية إلى عموم الأمة العربية وخاصتها فدبج المقالات الرصينة ونشرها في كبريات المطبوعات والصحف المصرية منها الصادرة في ذلك الزمان نذكر منها: (المؤيد، والمنهاج، والشورى والزهراء)، وأثنى عليه العلامة (سليمان الباروني) واصفا إياه بالعلامة الجليل بقية السلف الصالح قاضي القضاة؛ فقد كان هذا الجد حجة في الشريعة، فسقاه الأحكام، وأودع قلبه أصول الفقه، وأشربه آثاره العلمية، وقرأ في حضرته سائر الأجوبة النثرية واستظهر في مصاحبته جلّ المسائل الفقهية التي درسّها وتدارسها مع تلامذته وأقرانه وهي مدوّنة في "عنوان الآثار" للشيخ منصور بن ناصر الفارسي، و"قرة العينين في أجوبة الشيخين"، و"إرشاد السائل" للسيد حمد بن سيف البوسعيدي.

فلمّا شبّ الشيخ هاشم بن عيسى بن صالح عن الطوق أخذ أصول اللغة العربية عن الشيخ حمدان بن خميس اليوسفي؛ فأتقن قواعد النحو فاستقام لسانه، وحوى علم الصرف فصفى معجمه من كل شائبة ودخيل، واستظهر علم البلاغة واستجمع زمامه، وحفظ عيون الشعر العربيّ وعرف رجاله في كل أعصرهم على اختلاف مشاربهم ومدارسهم، واستمسك بأزمّة علم البيان فاتسعت معانيه في غير إطناب ولا تسهيب، وضاقت عبارته في غير عِيٍّ أو غيّ.

وتضع الأقدار السنيّة الشيخ هاشم بن عيسى بن صالح في مجلس الشيخ العلامة حمد بن عبيد السُّليْمي؛ الذي عوضه ربه عن فقد البصر ببصيرة نورانية في فهم الأحكام الشرعية، وأورثه قريحة شعرية التي أرّخ بها لأحداث عصره، ودان بالفضل الجليل لشيخين من أقطاب العلم، وركنين شديدين من أركان الشريعة الغراء والعلامة الشيخ أحمد بن سعيد الخليلي، الشيخ نور الدينالسالمي، فاستفاد منه كثيرا وعليه تخرج.

لازم الشيخ هاشم بن عيسى بن صالح جدّه في كل خطاه، وسار على نهجه ومنهجه في التدريس والقضاء، وقصد مدرسة الإمام الشيخ محمد بن عبد الله بن سعيد الخليلي التي رفدت المكتبتين الإسلامية والعربية برزنامة من المؤلفات القيّمة في سائر صنوف المعرفة، واختلف إلى سائر الزوايا والمساجد النزوية فانتقى العلم من صدور مشايخها، وحوى المنهاج القويم من مخطوطات علمائها، ووعى الأحكام  الفقهية، وأتقن علوم القضاء والولاية من محاورات أساطينها، وزهادها.

هناك في الفيحاء (سمائل) النائمة في حضن سلسلة جبال الحجر الشاهقة، وفي واديها نبت عود الشيخ القاضي هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي في شجرة سلالته العريقة صهرا ونسبا، وأورقت فروعه علما وحكمةً في حجر جده لأمه العلامة الزاهد سعيد بن ناصر بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد الكندي، وتردد صدى مسائله العلمية، ومطارحاته الشعرية ورسائله النثرية على سلالم جنان الجبل الأخضر؛ فنشأ نقيّ الجيب طاهر الصدر، يألف ويؤلف، لا يزدهيه الإطراء، ولا يستخفه الثناء، جمع أكناف الرحمة في صدر سما على الضغائن، غسلته أفلاج الفيحاء الرقراقة من كل لجاجة، وطهرته مجالس العلماء من أدران المكابرة، ووطنّت نفسه على الرضا البطانة الصالحة من أهله ومريديه، وصدحت بلابل شعره في ظلال نخيل فلج (بو سمان) في بوشر التي اتخذها سكنا ومأوى تهفو إليها سريرته، وتنعم بظلالها علانيته، ويزهو بها مفاخرا، وله فيها بيتان يتردد صداهما على ألسنة سكان بوشر ومن زارها:

وقائلة ما بالك اخترت بوشرا

على سائر البلدان إذ هي أحقرُ

فقلتُ لها كُفّي الملامة إنما

بلاد الفتى من دينه فيه أوفر

وكانت يد الشيخ هاشم مبسوطة لا تحتفظ بدرهم ولا دينار ينفق ما يطاله في سبيلين لا ثالث لهما؛ فالسبيل الأولى كانت على رحلاته وسفراته خارج عمان وداخلها واستضافة المشايخ والعلماء وطلاب العلم، والصدقات الجاريات وهي خبيئة بينه وبين ربّه وأمّا السبيل الثانية كانت على شراء الكتب والمخطوطات وله في ذلك بيتين شهيرين يترددان على ألسنة طلابه، ومريديه، ومن جلس بين يديه طالبا للعلم؛ يقول فيهما:

وقائلة: أنفقت في الكتب ما حوت

يمينك من مالٍ، فقلتُ:  دعيني

///

لعلي أرى فيها كتابا يدلُّني

لآخذ كتابي في غدٍ بيميني

لذلك استفاضت حشاشة قلبه من فيوض الأعلام من الأئمة والمشايخ والأقطاب من علماء عُمان فحفظ واستظهر الفقه وأصوله من مؤلفات شمس العصر، ووحيد الدهر، والعلامة المحقق فخر المتأخرين الإمام نور الدين السالميّ؛ فحوى في صدره (شمس الأصول)، وقرأ على كثيرين من مشايخه (طلعة الشمس)، و(الحجة الواضحة)، واشتهر بين أقرانه وتلاميذه بحفظه لأرجوزة  (جوهر النظام)، والتي تزيد عن (14000) بيت، وكانت للشيخ العلامة (أبو عبيد حمد بن عبيد بن مسلم السليمي) مكانة في قلبه وعقله، فانتهل من آثاره العلمية أسمى العلوم شرفا، وأعظم المعارف قدرا، وأوجب العلوم طلبا وهو علم التوحيد من كتابه (الشمس الشارقة في علم التوحيد)، فلمّا امتاز به من بين أقرانه بروح صافية، وذهن متقد تواق إلى المعرفة، وقدرة على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة قدحت زنادها مداومته على تهذيب نفسه وتأديبها لتبقى على الصراط لا تطالها الأثمة ولا تأسرها الآصار، ولا ترتهنها الأوزار أتقن فهم كتابي "هداية الحكام إلى منهج الأحكام“و”خزانة الجواهر في الفقه" في أجزائه الخمسة، ولمّا كان القدر قد اختار له طريق القضاء والولاية هداه إلى حفظ واستبصار كتب "العقد الثمين في الدعوى واليمين" و"تبصرة المهتدين". و"بهجة الحنان في وصف الجنان" و"قلائد المرجان".

يتبع....