ملح البارود

 

د. سعيد بن سالم الحارثي

عندما تهب الرياح، يثور الصخب المُلبد بالعمى من أصل التراب، لا لجبروته، وإنما لكونه ترابًا أبلغ ما يطمح إليه أن يقتفي فراغًا إثر فراغ، ومكبًا إثر مكب. يلج من باب واسع لا إطار يحده ولا فضاء يُؤطره.

في عالم التراب هذا تجد رموزًا مفرغة تمامًا؛ بل صورًا خرساء ونشاطات جوفاء تأججها زوابع ذات هالة عظيمة مليئة بالصخب حد الضجيج المؤذي لكيانات الأشياء. يتأذى منه الحياء في مائه، واللغة في معاجمها، والمواطنة في أنفتها، والأوشاج في رحمها، والشرف في خدره، والآذان في هدأتها والعقول في مستقرها. صور لفضاء باطنه فيه وهم وجهل وظاهره من قبله شقاء وتفكك للأحلام وللقيم السوية التي هي مناط النجاة.

تتفاقم فوهة الاشتغال بحسابات "الانفصام الاجتماعي"، ولا أجده إلا كذلك عند بعضهم، ويتسابق المتسابقون إلى تلك الفوهة التي تتأجج بداخلها فوضى عالية اللزوجة وصخب يفيض عن الزمن لدرجة أن الوقت لم يعد متوفرا للالتفات لمتطلبات الحياة الطبيعية، لا الأب لمسؤولياته ولا أم لصغارها ولا الشاب لرسالته ولا الصبية لحيائها وزهرتها، والتفاصيل بحد ذاتها لا تحتاج إلى تفصيل، ليس لشيء وإنما لأن كل راعٍ فينا هو أحد اثنين : "إذا كان لا يعلم فتلك مصيبة.. وإن كان يعلم فالمصيبة أعظم".

سأكتفي بهذا لأخرج إلى صورة أكثر إشراقاً من حيث إنها قد تمثل الصفقة الحقيقية للهروب نحو الوراء دون التفاف! يقول غاستون باشلار، وهو أحد فلاسفة الجمال والفن: "صار البيت وجودًا حقيقيًا لإنسانية صادقة، كائن يقاوم دون أن يتحمل أي مسؤولية هجومية ". ما أصدق هذه المقولة وما أكذبها إذاً يا باشلار! نعي جميعًا أن الإنسانية الصادقة التي ذهب إليها باشلار أصبحت مشتتة بشكل مضاعف وكثيف، وإن وجدت ففي حدود نسبية بين جيل وآخر وبين مكان صغير اسمه القرية ومكان أكبر اسمه المدينة. لكن الملفت في هذه المقولة ليس وجودية البيت في كيان الإنسان وإنما الملفت هو المقاومة التلقائية الفطرية لهذا الكائن والتسليم بانعدام الخطر بحيث تنتفي الحاجة للدفاع أو للهجوم!

إلى ماذا إذاً يقود ذلك؟ وما هي المقاربة الأكثر نجاعة بين البيت الذي أخرجه باشلار من بعده الهندسي إلى حالة من الحميمية والشاعرية الكفيلة بزرع الطمأنينة بين أفراده، وبين بيتنا اليوم الذي ارتقى في شكله الهندسي بينما توسعت شاعرية أفراده لتسع عالماً مجهولاً يرقد على إثنية ممنهجة وتربصات شيطانية؟

لم يعد سلاح التربية الدينية ومناهج التعليم بتلك القوة التي تمكنها من الصمود أمام سباق التكنولوجيا الذي أصبحت تتنوع موائده جيلا إثر جيل، ذلك لأنَّ المائدة الطبيعية للتربية الدينية بما تحمله من عمق العواطف ونضج العلاقات وسلامة الفكر الملهم للكمال الذي يصبو إليه الفرد لا تتوفر إلا في عدد ضئيل جداً من بيوتنا. كما لم تعد أنشطة البيت الذي هو ذلك الجسم المادي الذي يقبع على الأرض محل شغف لجيل يفترش الرفاهية ويلتحف فضاءً إلكترونياً لا ينفك يبهره ويغذي متطلباته العاطفية قبل الفكرية. إنها بلا شك مرحلة حرجة، وهي مكمن خطر حقيقي،  يغيب فيها الشعور بماهية الرسالة الآدمية لتشق عن صدرها الغوغاء فتقتلع الوعي بالصلة بين الواجب الذي ينبغي اقتفاؤه بطبعنا البشري وبين مآل الأمور حال إهمال ذلك الواجب.

إنَّ من أشد الاعتقادات التي ينبغي أن يستبشر بها العاقلون في أي مجتمع للسيطرة على القلق تجاه جيل تكنولوجيا التواصل هي أن الطبيعة البشرية لا تستقر على حال حتى تجد ذلك الرابط الذي يضمن لها الاستقرار الفطري الذي لا صلة له بملابسات العصر وتقلبات البيئة المحيطة، وذلك الاستقرار هو الذي سيكفل لها نظاماً اجتماعياً – وإن طال الأمد – يحدد سلوكها وكيفية معيشتها في إطار الفضيلة لا الرذيلة وفي إطار المعرفة لا الجهل، ويكفينا التصديق بأن الدين خير ما فطر اللهُ الناسَ عليه، لقوله تعالى:"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ".

وعلى ذلك لابد من تكثيف العمل على نشر تعاليم الدين باعتباره ضرورة اجتماعية ينبغي التمسك بها لإيقاظ الفطرة السليمة ودمجها في إطارها الأخلاقي، وذلك من خلال برامج ممنهجة تستخدم ذات التكنولوجيا كمشروع توعوي مُلهم وجاذب لأعمار الطفولة والشباب، ومما لا بد منه الاستفادة من الخبراء والمتخصصين لبناء برامج أكثر نجاعة لتحسين أداء الأسر في التَّصدي لتلك التقلبات التي لا تقل فتكاً من ملح البارود، والله المستعان.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك