هل للتجربة الشخصية قيمة علمية؟

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي **

 

يمر الإنسان في حياته بتجارب مُختلفة تتراكم عبر الزمن وتتحول إلى خبرات تلعب دورًا هامًا في تشكيل شخصيته، بل وفي بعض الأحيان عندما تكون التجارب صادمة قد تشكل منعطفاً خطيرًا في حياته وتغير توجهاته الفكرية والأيديولوجية وتُؤثر على حياته الاجتماعية أيضًا.

وعلى الرغم من تأثيراتها الكبيرة علينا كأفراد، إلا أنَّ هذه التجارب تبقى تجارب شخصية في عرف المناهج العلمية لا يُمكننا ولا يحق لنا تعميمها.

فكما نعلم تبوأت التجربة منصبا عاليا في منهج الدراسات العلمية، فهي الأداة الرئيسية التي تنبني عليها القوانين العلمية، فكل ما نعتمد عليه من تقنيات في حياتنا اليومية إنما هو نتاج هذه التجارب العلمية، لذا قد يتساءل البعض، ما هو الفرق بينها وبين التجارب الشخصية التي نمر بها في حياتنا اليومية، أليست حياتنا كلها تجارب تتحول إلى خبرات متراكمة شبيهة بالتجارب العلمية؟

والواقع أنَّ طبيعة التجربة واحدة، لكن هناك أمرين آخرين يميزان التجربة العلمية عن غيرها وهي أنها تتميز بعموميتها وعالميتها، فالتجربة العلمية تشترط الحصول على نتائج مشابهة تمامًا عند القيام بها على مجموعة كبيرة من البشر مهما كان جنس هذه المجموعة وأصولها العرقية، ومهما اختلفت أيديولوجياتها وتوجهاتها الفكرية، لأنَّ القوانين العلمية قوانين عالمية تطبق على كل البشر، وهذا ما تفتقر إليه التجارب الشخصية، فالتجربة التي يمر بها الإنسان تمَّت على عينة واحدة ودون الخضوع لضوابط التجربة العلمية من ضبط للمتغيرات الأخرى، ولذا لا يُمكن ولا يصح تعميم نتائجها.

فمثلا يمكن لجميع البشر التحقق من أنَّ المعادن تتمدد بالحرارة وبغض النظر عن توجهاتهم الفكرية وعقائدهم، وفي أي مكان على الأرض وفي أي وقت من الأوقات، ولذا يصح أن نقول إن هذا قانون علمي، بينما لنفترض أنك قمت بتجربة ما، مثلا لاحظت أن السكر يذوب في الماء بشكل أسرع كلما ارتفعت درجة حرارة الماء، فهل يمكننا التعميم والقول بأنَّ المواد الصلبة تزيد قابلية ذوبانها كلما ارتفعت حرارة الماء الذي أذيبت به، والجواب لا يمكننا التعميم ما لم نقم بإجراء تجارب أخرى عديدة ونتحقق من ذلك، ولو قمنا بذلك بصورة صحيحة سنجد أن هناك مواد صلبة تقل قابلية ذوبانها عندما نقوم بتسخين الماء الذي أذيبت به، فليس صحيحاً أن نعمم بأن نقول إن المواد الصلبة تزيد قابلية ذوبانها عندما يتم تسخين الماء المذيب لها.

لكن من المهم الإشارة إلى أن هناك نوعين من التجارب العلمية، الأولى التجارب التي يمكن السيطرة فيها على أغلب المتغيرات العلمية، ومثل هذه التجارب عادة تولد نتائج يقينية تصل نسبتها قريب 100% كالتي أشرنا إليها سابقًا مثل تمدد المعادن بالحرارة، بينما هناك تجارب معقدة، يصعب السيطرة فيها على جميع المتغيرات، كمثل دراسة علاقة التدخين بالسكتة القلبية، فالناس تختلف أنشطتهم اليومية فبعضهم يعيش حياة نشطة، كما أن عوامل الوراثة تلعب دورا في السكتات القلبية وهكذا الحال في نوع الطعام الذي يتناوله الفرد، ولذا يلجأ العلماء في هذه الحالة إلى دراسة الظاهرة من خلال الاعتماد على عدد كبير جدا من العينات وهم البشر في هذه الحالة الذين يتم إخضاعهم للدراسة، لكن عمومًا تقل نسبة اليقين عادة في هذه التجارب، وتزيد بمرور الأيام وكثرة التجارب التي يقدم عليها الباحثون أو ربما في حالات معينة تقل حسب نتائج البحوث، ومن هنا تأتي أهمية تكرار البحوث العلمية والتي تكون فيها العينات متغايرة ومختلفة ولربما تكون دراسة الظواهر المرتبطة بالكائنات الحية والدراسات المرتبطة بالبحوث البيئية من أكثر العينات صعوبة نظرا لكثرة المتغيرات فيها.

ومن هنا فالتجارب الشخصية التي نتعرض لها، لا يمكن أن تعتبر عامة، فلربما تكون صحيحة على المستوى الفردي إلا أنه لا يمكن أن يتم استخلاص قانون علمي أو نتيجة علمية منها، ولا تقتصر هذه النظرة إلى التجارب الشخصية على علوم الطبيعة فحسب بل إن النظرة ذاتها تمدد حتى في الرؤية الإسلامية، فكما هو معلوم فإن مصادر استقاء المعرفة في الإسلام محدودة ومحصورة في أمور معينة، ولا تعتبر تجارب العلماء وعموم البشر من هذه المصادر.

لذا.. لا تعدو مجربات العلماء سوى "مجربات" وتجارب شخصية وليست تجارب علمية أو دينية؛ فلا يمكن أن نعدها قضايا علمية مسلمة فهي أمور لا يعترف بها الشارع الحكيم كمصدر لاستقاء المعارف الدينية وكما لاحظنا أيضا أنها لا تحظى بأي قيمة علمية على مستوى علوم الطبيعة.. وعلينا أن نضع هذه التجارب في مكانها الصحيح ولكل واحد منِّا الحق في رفضها وإهمالها أو الأخذ بها إن أراد، لكن ليس لأحد الحق في المغالاة بقيمتها لمجرد أنها صدرت من شخصيات كبيرة نجلها ونحترمها فهي لا تعدو كونها في نهاية المطاف سوى "تجارب شخصية".

كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس