التاريخ.. تحديات النرجسية والإنصاف!

 

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

 

"إذا لم تكن هذه مؤامرة، فهي حتمًا ليست حفلة شاي" محمد حسنين هيكل.

***********

 

نتحدث عن التاريخ كأننا نتحدث عن بديهيات مسلمٌ بها، أو وقائع موثقة تمام التوثيق، وموثوقة بمؤكد الثقة، بينما في الواقع الوضع يختلف من حدث لآخر، من مرحلة تاريخية لأخرى، وللتوضيح عليك بمتابعة بعض الأحداث التي جرت في تاريخنا المعاصر القريب، وتتبع الكتابات حولها، ستجد العجب، صعب؛ بل يستحيل أن تجد تأريخًا متفقًا عليه حول حدث ما؛ بل يتم إقحام وجهات النظر والعاطفة والآيديولوجية في تأريخ الحدث.

أحدثك عن حدث وقع فعلًا لا يحتمل التلاعب بالكلمات؛ بل قول الحقيقة مجردة، مع ذلك تجد كبار القوم في الصحافة (على اعتبار أن الصحافة تؤرخ لما تنقل من أحداث) قد تلاعبوا بالألفاظ وقلبوا الهزيمة إلى نكسة! مثل حرب 1967.. تصوّر أن الصحفيين المُقربين من أهل القرار هم من يؤرخون الحدث، تصور الكوارث وقتها؟! الصحفيون القريبون من الرئاسة المصرية وقتها هم من أرخوا لهذا الحدث. هنا ستخرج تساؤلات مستحقة حول مصالح وولاء الذين قدر الله أن تكون كتاباتهم هي التأريخ الذي اعتمده الكثيرون حول حدث ما.

تصور لو فعَّلت التفكير النقدي وتصورت لو أن مثل هؤلاء كانوا هم من كتب التاريخ بأقسامه (القديم- الوسيط- الحديث- المعاصر) ما الذي سيتشكل لديك من قيم؟ وما ستتكون عندك من أفكار؟

قبل التوغل في مآلات التاريخ ودهاليزه، علينا ألا نطير في السماء؛ بل نمسك بالأرض قليلًا ونعترف بأننا بشر، أناس تنقصنا أشياء، ونحتاج لأشياء، ولا كامل إلا وجه الله. فهل تعتقد أني كعربي سأنسلخ من قوميتي واكتب تاريخًا مضادًا على الأقل لتوجهات بلدي، حتى لو كانت خاطئة، لا أُحدثك عن جُبن وشجاعة ولا عن قوة وضعف، لكن أؤكد لك أن الحكمة والإنصاف تقتضيان أحيانًا تجاهل بعض العناصر الجوهرية.. لماذا؟! لسبب بديهي وهو محركات النرجسية المناقضة للإنصاف!

سأبدأُ بالاقتباسات من مقولات وأقوال يعتبرها الكثير (أحيانًا أنا منهم) أنها حكم وعبر، أتساءل كذلك: من قالها إنسان والركبان من الأنس الذين ساروا بها حتى وصلتنا، يصيبون ويخطئون، يصدقون ويكذبون، أليسو بشرًا، ألم يقل عز من قائل في سورة الكهف: "وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (الكهف: 54).

أي أنك تستدعي وتبحث وتتلقى مقولات وشهادات لأناس قد تكون شخصية واحدهم جدلية، أو ذات آيديولوجية معينة، أو قل تستفزه عواطفه الدينية والقومية ومعتقداته الفكرية، مع ذلك نسلم بكثير من المقولات والتي سمي الكثير منها حكمٌ وعبر!

لو تمعنَّا في التاريخ نرى أنَّه بوتقة تحتوي وتستوعب عدة علوم وليس علمًا منفردًا، علوم النقد المختلفة وإختصاصات الوثائق وعلوم تخريج الأحاديث والجرح والتعديل، والمخطوطات، وحتى الفلسفة وعلم الاجتماع؛ بل والعلوم السياسية هي ألصق العلوم بعلم التاريخ وهلم جرا!

ثمة من يظن دراسة التاريخ هي في الواقع دراسة أدبية محضة، أقرب لدراسة القصص والروايات، وقد صدق وهو مخطئ، وهناك من يتعامل مع القراءة التاريخية برومانسية وقطعا" هذا أمر بعيد عن الواقعية بكثير من الأحداث المخضبة بالدماء!

التاريخ هو دراسة تحليلية وبحث علمي تقييمي قبل أن يكون قصة أو رواية، ولو كان قصةً أو روايةً لأصبح أحد فروع أدب القصة أو الرواية، لكنه يشحذ همم الماضي ليسقطها على مآلات الحاضر، ويستشرف بها عددًا من بنود المستقبل بحسب التأثر والتأثير، والتعلم مما مضى والتعليم لما هو مقبل، هذا التاريخ ودراسته وهذه معانيه ونبراته.

دراسة التاريخ التقليدية من المهم- وفقًا لتطورات الحاضر- أن تتغير معالمها، فقد انتهى زمن الحفظ الذي أصبح المحفوظ به هو زر يضغط به على ما ترغب أو تحتاج، الاختبارات الموضوعية أصبحت أضحوكة في زمننا، مضحك جدًا في سنة 2022 ميلادية أن يقوم طالب التاريخ بناءً على حفظ أتى على طريقة التلقين، أنت بذلك تجهز جهازًا حفظ وليس دارسًا متمكنًا.

أتذكرُ عندما كنت أدرس التاريخ بمقرراته المختلفة، أنني كنت أنسى الكثير مما حفظته عندما ينتهي الفصل الدراسي، وإذا سألتني بعد انتهاء الفصل الدراسي عن بعض المعلومات البديهية لما جاوبتك؛ لأنني كنت أشبه بجهاز التسجيل، وليس طالب في علم التاريخ أحلل وأناقش وأبحث (بعض المقررات كانت تعتمد على التحليل والمناقشة والبحث لكنها قليلة وسط كومة من مقررات الحفظ والتلقين!).

لذا تجد الكثير من العامة يعتبرون مقررات التاريخ مجرد ممر عابر؛ حيث تحفظ معلومات عن بعض الشخصيات والأزمنة والأماكن، مما يجعل البعض يستسهل بعض التجاوز للحصول على أفضل نتيجة في الاختبار!

تدريس التاريخ ينبغي- بل ويجب- أن يتطور ويحدث، انتهى زمن الحفظ والتلقين، ويجب تعليم طلبة التاريخ بشكل معاصر يواكب تطورات التكنولوجيا، والحث على البحث والمناقشة والتحليل؛ للوصول لخلق جيل يعرف تاريخه، ويفهم مسارات التاريخ بشكل ينمي ملكة التفكير النقدي عند الطالب مما يجعله مواطنًا يفهم معنى الوطنية وعنصرًا فاعلًا في بناء الوطن، ويتعلم أنَّ الهزيمة هي فشل مُؤقت ومدرسة يتعلم منها الإنسان ليرتقي للأفضل، وليست سُبة أو نقص، والنجاح هو دافع للإنجاز ومنبع للفخر ومدعاة لترك تاريخ مفيد للأجيال القادمة.. والأمم الناجحة لا تُنقصها هزيمة، ولا يرفعها انتصار، وأن الكذب وتلفيق الأعذار وقلب الهزيمة لا يجب أن يُرى وكأنه بمثابة "انتصار مؤزر"، والعكس هي حيل قد تصلح لزمن، لكنها ستنكشف في بقية الأزمان.

إنَّ الكتابة التاريخية الصادقة، أمر ملح ومهم، والتعلم من التاريخ يحتاج للصدق في مواجهته لاستنباط المضامين والمفاهيم المتعلم منها، أما الكذب فهو هدم وبهتان.