من الطارق؟

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

تسلّل صوت غريب أو أنني شعرتُ حينها أنَّه غريب إلى مسامعي الساكنة، تجاهلتُ الصوت وسحبتُ الدثار على وجهي، وانكمشت فيه أستعيد ما يُحاول أن يُفلت من سكوني؛ لكن محاولات العبث استمرت وزاد ضجيجها، لم تستجيب عينيّ المحكمتان لأي بصيص، لكنهما استعانتا بأذنيّ لتمييز نوع الضجيج الساطئ عليهما، برهة من الزمن وأتت الأذنان بالخبر اليقين، لم يكن طرقاً على الباب؛ إنما هو صوت طيور النورس وبعض الغربان والعصافير، تحوم حول البيت متخذة من نافذتي مسرحاً لعرض مشهد نشاط الصباح.

استنفرت عيني اليسرى؛ رغم ما تشعر به من النّعاس؛ فأخذت تفتح طرفها وتغلقه عدة مرات في أجزاء عديدة من الثانية، امتدّت يدي مرغمة لأخذ الهاتف، حثّتْ عيني بصرها لإبصار الوقت؛ فإذا بها السابعة والنصف صباحًا؛ فأرغمت عيني اليسرى شقيقتها اليمنى التي لا تزال مغمضة وتحاول تكذيب الخبر على الاستيقاظ الجبري، وسألتها ماذا عن منبه الصباح وعن صلاة الفجر الفائتة، من أين أتت الخيانة، من الذي أغلق المنبه؟

تتابع حديثها، يبدو أنَّه ثمّة خائن يسكن بيننا، صحصحت العين اليمنى قائلة: تعلمين يا أخيتي من الخائن، لستُ أنا ولا أنتِ ولا أيّ من الحواس الأخرى، نحن جميعا مفعول به والفاعل هو إحدى الجوارح، وعلى الأغلب هي اليد اليمنى، ولطالما طالت الكثير من الأشياء على مسمع ومرأى منّا؛ لقد امتدت لإغلاق منبه الصباح ونحن في لذة النوم ننعم؛ فذهب الفجر ونسائمه وهدوؤه ونحن تحت تخدير الغفلة، يجب أن نوقفها عند حدّها وتعلم أننا لن نسكت على فعلتها، لتقف صاغرة، ولتعلم أن عليها ألا تتجاوز أيّ حدّ وُضِع أمامها.

استحسنت العين اليسرى ما أشارت به شقيقتها، وقررتا عقد اجتماع طارئ لبقية الحواس والجوارح معًا، ورأتا أنّ عليهما إقناع الأنف والأذنين واللسان بفكرتهما للبحث عن العقدة وإيجاد الحل، لتفادي أيّ تمرّد ممكن، وافقت الأذنان دون شروط؛  كونهما أول من تأذى، بينما وضع الأنف شرطًا إن تحقق ذهب معهم، وهو حصوله على العطر الجديد من فرساتشي، النّازل مؤخرًا بمحلات العطور؛ فرائحته لا تزال تأسره، أشارت له العين اليمنى أنها مهمة لا تجيدها سوى الجوارح، فلنعقد الاجتماع فورا لتحظى بالعطر، هيّا معنا لنقنع اللسان برئاسة الاجتماع ووضع الأحكام لوقف الفوضى، انصاع الأنف لرأي العينين واستحسنه قائلاً بصوتٍ جاد:  طبتَ صباحًا أيها اللسان الفصيح، الناطق بالحق، يجب أن تقف إلى جانبنا؛ فنهاك من يعبث بنا ويستبيح حقوقنا، رحبّ اللسان بهم مندهشًا، كيف لهم أن يُقدِموا على طلبهم قبل شربه قهوته!

قال متكاسلًا والحروف تكاد لا تستقيم في مخارجها:  لم أتذوق قهوتي هذا الصباح، وكما تعلمون قهوتي أولا يا أصدقاء، ثم لكلّ حادث حديث أخبروا تلك الجوارح أن تحضرها فورًا.

ابتسمت الأذنان وقالتا بصوت واحد: سمعنا العقل يأمر الرجلين واليدين المتقاعسات، بالذهاب للمطبخ وإعداد القهوة لحضرة اللسان فلتستجيب؛ فهبّت جميعها تُعِدُّ المهمة، وبعد إنجازها استعاد اللسان نشاطه؛ فأبدع وتفنن في صناعة الجمل والمفردات والأذنان تصغيان باستحسان، واستمتع الأنف برائحة القهوة، آملًا تحقق شرطه في نهاية الاجتماع، والعينان تنتظران بإصرار إدانة اليد اليمنى. 

بدأ اللسان يصوغ كلمات التصويب والنصح والتوجيه، وبقية الأعضاء منصتة بما فيهم اليد اليمنى، لا تحرك ساكناً معترفة بفعلتها؛ لكنها بررت قائلة: يا عزيزي اللسان إنك تعلم ما حلَّ بصديقتيّ الرجلين من التعب، نتيجة ما تتعرضان له طيلة اليوم من الحركة، وهما لم تأخذا القسط الكافي من الراحة، ونحن اليدان لسنا بأفضل حالٍ منهما، وتعلم ما نعيشه من قسوة الشتاء، ألا يكفي هذا لحدوث بعض التمرّد؛ فالماء البارد في الصباح يكاد يُجمّد الدم في عروقي، ألا ترى أنك لم تستطع الحديث معنا إلاَّ بعد شرب قهوتك؟

إنَّ النوم يُميتنا، فما بالك بإحيائنا؟ خاصة نحن المسؤولين عن الحركة والبطش والسعي، أهكذا يتم تجريمنا عوضًا عن الرفق بنا !

لقد أعيتنا أوامركم يا معشر العقل والحواس، وعندما نسترق بعض الوقت لنحظى بالقليل من الراحة تثور علينا ثورة لا تخمد ونُتهم بالخيانة، أين محاكمتك للأذنين عندما كانتا تستمعان للمحرمات من الأقوال، وللعينين عندما لا يغضّان بصرهما لما يبدو لهما من قبح أو جمال، وأين محاكمتك للأنف عندما يدور في المحلات بهدف التعرف على ما هو جديد من الروائح دون شراء، وأين محاكمتك لنفسك عندما تتذوق ما ليس لك ولا تنطق الحق؟!

نحن الجوارح لسنا إلاّ رهن إشارة منكم، كُفّوا عنّا اللّوم وتذكروا أننا مأمورون.

رجع لساني إلى مكانه متدثراً بفكيه الدافئين، والتزم صمتا عميقا مُدركا أن فصاحته وحدها لا تكفي، دون وجود حصانة ذاتية مقنعة تجعله يتحدّث دون اكتراث أو خوف.