سعيدة بنت أحمد البرعمية
عاش الآدمي على الأرض مُحاربًا لأخيه الإنسان مُبررًا لنفسه دوافع حربه له؛ فقد برّر قابيل لنفسه قتل أخيه حين قام بقتله؛ كذلك الحروب التي داست على الإنسانية، قامت على دوافع تبرّر جرائمها، وفي المقابل أغلب المنظمات التي قامت بالدفاع عن الإنسانية والمطالبة بحقوق الإنسان، قامت أساساً من أجل المقايضات وغيرها من الأمور؛ لذا فإنَّ الإنسان يعلم جيدا أنه لا إنسانية مع الحروب، ولا حقوق للإنسان بدافع المقايضات، ومع ذلك دائما يقرع طبول الحرب بيدٍ ويرفع يدهُ الأخرى معترضًا عليها، مطالبًا بالإنسانية وحقوق الإنسان، عجبًا له، يريد الحرب والإنسانية معًا!
هذا ما قتل الإنسانية في نفسه لأنها لم تعد موجودة أصلا، سوى في بعض لوحات الرسم وأقلام الأدباء.
نعلم أن الحرب هي أن تقوم قوة ما برمي كل معايير الأخلاق والإنسانية عرض الحائط وتُقدِم على اجتياح قوة أضعف منها وأغنى منها طمعًا وجورًا، تنهش فيها بكل ما أوتيت من قوة، لا تفرق بين حق وباطل، تفتك بكل ما هو أمامها مُخلّفة قدرا هائلا من الدمار، حيث يتدنى مستوى الإنسانية؛ فقتل الأطفال والنساء والمدنيين كقتل الجنود والقادة لا فرق، وتذهب الأرض ويُهان من عليها وتُداس الكرامة دون رجعة.
سؤالي: لما ارتبطت الحرب بالإنسان منذ وجوده على الأرض وعلى مرّ العصور؟ هل الإنسان معادلة موزونة من الخير والشر معاً وهو بدوره ما ينعكس على نسله وسلالاته تباعًا؟
المتتبع للتاريخ الإنساني على وجه الأرض يُلاحظ أنه لا يخلو عصر من الحروب وإلى يومنا؛ فقد ارتبطت حياة الإنسان منذ القدم بقيام الحروب والنزاعات والأمثال كثيرة ومنها الحرب عند الإغريق، وظهر ذلك من خلال تحكم دولة اليونان بما حولها من الشعوب الأخرى؛ فحاربتها وأنشأت فيها المستعمرات، كذلك حربها أيضًا مع مملكة طروادة، بالإضافة إلى الحرب التي قام بها الإسكندر المقدوني ووالده على آسيا وسيطر من خلالها على العالم، كذلك الحروب في الجاهلية بين العرب أنفسهم، والتي من أسبابها الثأر، ولعلّ أيام العرب أكبر دليل على ذلك، الحرب التي دامت أربعين عامًا سجالا بين قبائل العرب المختلفة يتقابل فيها الفرسان في ساحة المعركة منذ طلوع الشمس إلى مغيبها، وينتج عنها خسائر كثيرة في الأرواح والأموال وتستأنف تباعًا دون رحمة ولا بصيرة، أيضاً من دوافع حروب العرب السلب والنهب والصعلكة، التي استحوذت على العرب في حقب تاريخية معينة جعلتهم ينهشون في أرواح بعضهم البعض دون وعي يُذكر.
وتعرض العالم للحربين العالميتين الأولى والثانية وما صاحبهما من تطور في الأدوات الحربية والأسلحة النووية التي داست وسحقت جميع معالم الإنسانية. وأذكر على سبيل المثال ما حدث في مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين؛ حيث أودت القنبلة النووية بالمدينتين بمن فيها وجعلتها رمادًا.
وكثيرة هي الأمثلة، فهناك حرب فيتنام، وحرب فلسطين 1948، وحرب أفغانستان، والعراق، وميانمار، ولبنان، واليمن، وغيرها.
المدهش هو الحرب البيولوجية في عصرنا الحالي التي اجتاحت العالم، فما زال هناك من يقول إن فيروس كورونا "كوفيد-19" ومتحوراته معدّل بيولوجيا، لكن الواقع المؤكد أنَّ هذا الوباء خطف الأرواح وغيّر مجريات الحياة على الأرض اجتماعيًا واقتصاديًا على وجه الخصوص.
إنها حرب جديدة بأسلحة أكثر خبثًا وقسوة ومرارة، وصلت لغايتها بعيدًا عن القوى العسكرية والقادة والجنود، حرب دون دفاع عن النفس ودون ثأر، قاتلٌ مخفيٌ وقتيل مرئي، بأيدٍ مجهولة برعت في صناعة الموت والبراءة معًا.
لقد أصبح قابيل هذا الزمان محترفًا في صنع الموت والبراءة؛ ولم يعد يُبرر لفعلته؛ فاتخذ لنفسه مكانًا مخفيًا عن العدالة، ولم يُفكر طويلًا منتظرًا غرابًا يُعلمه كيف يُواري سوة أخيه؛ بل فعلها ووقف خلف الستار يراقب بدقة ما يحدث، دون اكتراث ويبتسم بخبث يُعزّز لدهائه الذي يُصفق له بعنف، مُهنئًا إياه بوصول فكرته غايتها العابثة بأبناء جنسه من حوله؛ فحربه تكاد تكون شرعية بعيدة عن الإدانة والتجريم وعن المحاكم العسكرية!