د. يوسف بن حمد البلوشي
يمنح القَدَر الدول النفطية، فُرصةً لتسوية أشرعة اقتصاداتها نحو تحقيق تحولات نوعية، تضمن الاستدامة، بعيدًا عن التأثيرات المُباشرة للتغيرات في أسعار ومُستويات الطلب على النفط والغاز، من خلال بناء صناعات تُعظم المكون المحلي والتكنولوجي.
الدول النفطية، ومن بينها سلطنة عُمان، تعلمتْ الكثير من دروس الدورات الاقتصادية المُتعاقبة، وعمق تأثيراتها سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية؛ إذ لا يخفى أنه وبعد عقود من تصدير النفط، تمتلك معظم هذه الدول الجاهزية والاستعداد، فضلًا عن أنها استشعرت خطر تكرار نفس سيناريوهات الماضي.
ولا شك أنَّ السلطنة كالدول النفطية تولّدت لديها قناعات بضرورة تغيير الذهنيات المتجذرة، والأمر يستوجب أن تسير في رحلة تحول نوعي في تركيبة الاقتصاد الوطني، والمرتبط ارتباطًا مُباشرًا بمسار تعظيم الاستفادة من الموارد المُختلفة، والقيمة المُضافة المحلية، والإنتاج المحلي، وتوليد فرص مُجزية للعُمانيين، واعتبار ذلك مسارا لا رجعة عنه، فمن خلاله تتحقق السيادة والاستدامة، وبالنتيجة يتحسن المُستوى المعيشي للمواطنين. كما إن تحقيق تحولات نوعية في تركيبة الاقتصاد العُماني، يستوجب فهمًا عميقًا لترابطات مُكوناته المُختلفة، والتعامل بشكل شمولي مع التشوهات في عوامل الإنتاج الأربعة المعروفة؛ حيث إنَّ إغفال أيٍ منها يعني إغفالًا لمُكونٍ مُهم لن تتحقق خلطة الإصلاح بدونه.
وبنظرة سريعة على أرقام وإحصاءات ميزان المدفوعات والتجارة الخارجية، يتضح وجود اختلالات في المنظومة المحلية للإنتاج والتصنيع والخدمات، وتنامي الحاجة المُلِّحة لتدخلات تحفيزية مدروسة من منظور استراتيجي مُتكامل، دون إغفال الجوانب المالية والاجتماعية والاقتصادية.
أستحضرُ هُنا، الهبّة والدفعة القوية التي حظي بها قطاع الصناعة في السلطنة في مطلع التسعينات من القرن الماضي، ونتج عن ذلك أسماء صناعية يُشار إليها بالبنان، ساهمت بطريقة أو أُخرى في تنويع الاقتصاد الوطني، وخلق فرص عمل، ورفد الميزانية العامة بإيرادات، ومزيد من العملات الأجنبية، فضلًا عن توازن في ميزان المدفوعات. وهذا هو ديدن أي عملية تنمية.
وذلك لم يحدث تلقائيًا، وإنما جاء ترجمة لمنظور استراتيجي، أشرف عليه بشكل مُباشر الراحل السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وفق تدخلات مدروسة، يُدركها من عايش تلك المرحلة، والتي كان من أبرز خصائصها: تقديم التمويل الكافي بطريقة سهلة وسريعة، وتوفير الخدمات الأساسية للمصانع، وإنشاء أخرى في بعض الأحيان وتسليمها للمُستثمرين، وتحفيز وتشجيع التصدير، وإنشاء مركز ضمان الصادرات (الآن يُعرف باسم "كريديت عُمان")، وتقديم استشارات مُباشرة لأصحاب المصانع. كما كان هُناك، في الجانب الآخر، اهتمام بتوفير الموارد البشرية العُمانية المُناسبة، من خلال برامج التدريب المهني والفني والتكنولوجي.
الكل يترقب- حاليًا- هبّة مُتجددة للنهوض بقطاع الصناعة، وغيره من قطاعات التنويع الاقتصادي، والتي لن تتحقق دون إشراف مُباشر من جلالة السلطان- حفظه الله- حيث إنَّ زيارة كريمة من جلالته إلى المناطق الصناعية والاقتصادية والمزارع والمصائد والبيوت الإنتاجية، من شأنها أن تبعث رسائلَ مُباشرة وغير مُباشرة، للداخل والخارج، تؤكد أن عناوين المرحلة المُقبلة تُركز على توسيع قواعد الإنتاج والتصدير، وأن خدمة عُمان تكون بأيدي من يعملون في تلك الميادين، وليس المُنتظرين للعوائد النفطية والرواتب الشهرية.
يتوجب علينا عدم تفويت فُرصة ارتفاع أسعار النفط والدفع بتنفيذ حزم تحفيز اقتصادي، وإيجاد حلول مُتكاملة الأركان؛ فالحلول المُجترئة نتائجها حتمًا مُجتزئة، خصوصًا وأنَّ السلطنة تمتلك استراتيجية صناعية مُعدة بإتقان، وبمُشاركة جميع الجهات المعنية، سواء أكانت حكومية أم خاصة أم مؤسسات مُجتمع مدني. وهذه الاستراتيجية تُسطر حلولًا للنهوض بقطاع الصناعة، وبناء مُجمعات مُتكاملة للصناعات المُختلفة والخدمات المُصاحبة لها، كالأدوية والصناعات البلاستيكية والصناعات السمكية وغيرها.
كما إن هُناك عشرات البرامج في الخطة الخمسية العاشرة، بحاجة إلى تنفيذ، إلا أنه يتطلب من الجميع تحديد الأولويات مع كل مرحلة تقفز أو تهوي فيها أسعار النفط؛ إذ إنَّ عدم تطبيق الحلول، ومنذ فترة طويلة، هو ما يوصل إلى اتخاذ خيارات صعبة، وستكون أصعب في مرحلة يستمر معها الكلام المُنمّق، من قبيل "الأمور طيبة"!!
وللأسف، يأتي ذلك في وقت تتعمق وتتعقد فيه المشاكل الاقتصادية، كتزايد أعداد الباحثين عن عمل، وتآكل الطبقة المتوسطة في المجتمع وتراجع أداء شركات القطاع الخاص وضعف قدراتها على خلق وظائف مُجزية. وهنا يجب الإقرار بأنَّ هُناك ترسبات وبيروقراطية وسلسلة إجراءات طويلة، قيدت تقدم البلاد، وأفقدتها المرونة المطلوبة للتعامل مع المُتغيرات، وابتكار الحلول، ما يتطلب ضرورة التخلص منها، بأطر أكثر مرونة، حتى يستطيع الفريق الحالي تحقيق النتائج المرجوة.
لا ريب أنَّ رحلة التعافي للاقتصاد العُماني بدأت وتستوجب وتتطلب تنفيذ خارطة طريق، يشترك القطاع الخاص في وضع أهدافها وطرق تنفيذها، وأن تنادي بتشجيع إنشاء الشرَكات المُجتمعية، ومُساندة الشركات الناشئة والصغيرة والمُتوسطة، وتنمية تلك الكبيرة والعائلية، وتفعيل وتمكين غرفة التجارة والصناعة، وجذب مزيد من شركات الاستثمار الأجنبي المُباشر. وفي المُقابل، ونحن نرى العالم من حولنا يتحرك بديناميكيات سريعة يمكن القول إن الصبغة التقليدية والتحرك البطيء ما زالا يسودان أداء الأجهزة الحُكومية، وبات مطلوبًا من جهاز الاستثمار العماني وهيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمُتوسطة، وهيئة المناطق الاقتصادية الخاصة والحرة، والبنك المركزي العماني وبنك التنمية العماني وبورصة مسقط، مزيدًا من التحرك السريع، فالتحديات القائمة تستوجِب الجسارة والتحلي بروح وثّابة لدى فريق العمل الحكومي، وأن يعمل وفق وصفة واضحة، تتضمن سياسات مالية واقتصادية واستثمارية وعُمّالية وصناعية واجتماعية متناغمة ومنسجمة وأن يؤمِّن ويتحدث الجميع بخطاب تنموي جديد يبعث الأمل ويحشد الهمم.