إعادة كتابة العقد الاجتماعي (10)

ثقافة وعقلية الريع

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **

إذا كان كل نظام اقتصادي ينتج نظامه القيمي الثقافي والاجتماعي وكذلك نظامه السياسي وعقليته المتوافقة معه، فإن الاقتصاد الريعي - الذي هو عماد مداخيل 10 دول عربية نفطية، منها 6 وراثية و4 جمهوريات، و 12 دولة عربية شبه ريعية، كونها تعتمد في مداخيلها على: إيرادات السياحة، والممرات المائية، والموقع الاستراتيجي، والدور السياسي، وأنابيب نقل البترول التي تمر بأراضيها، والدور السياسي، والتحويلات المالية لمواطنيها العاملين في الدول النفطية - أفرز ثقافته الريعية غير المنتجة، وهي ثقافة اتكالية تعتمد على جهود الآخرين وفتات الريع، لا تزرع ولا تصنع، أشبه بثقافة الراعي الذي يرحل شمالاً وجنوباً يتتبع مساقط المطر سعيا وراء الكلأ المباح مرعى لأغنامه.

ما الثقافة الريعية؟

ثقافة الريع ثقافة غنائمية انتهازية مظهرية استهلاكية تغلغلت في تركيبة البنية الاجتماعية لهذه الدول وأصبحت موجهة لمسلكيات أفرادها وممارستها الاقتصادية التي لاتخرج عن الاستثمارات ذات المردود والربح السريع كالمضاربة المالية والاستثمار في العقارات واحتكارالأراضي والمضاربة عليها وبناء الأبراج والمجمعات السكنية المعزولة اجتماعياً تأجيراً وبيعاً واستخراج الوقود الأحفوري وتدوير عوائده بعد استئثار القلة المتنفذة بمعظمها، أي أنها أسلوب حياة لأفراد مجتمعات هذه الدول كما أنها أسلوب إدارة لحكوماتها وإجهزتها التابعة، طبقاً للكاتبة آن بنت سعيد الكندي وقد أصبحت ثقافة مجتمعية تحظى بالقبول والرضى والمباركة والشرعنة من قبل الجميع حكومات وشعوباً.

ما العقلية الريعية؟

إن أخطر نتائج وإفرازات الاقتصاد الريعي هو (العقلية الريعية) أو (منهج التفكير) السائد لأفراد المجتمع في إدارة الدخل الخاص واستثماره وإنفاقه، و(أسلوب تفكير) الدولة في إدارة المال العام وإنفاقه وإدارة قضايا التنمية والإنتاج وتنويع مصادر الدخل وعلاقاتها السياسية الخارجية بالدول الأخرى ودول الجوار، وأسلوب حلها للقضايا السياسية والاجتماعية الداخلية.

للمفكر الاقتصادي الفذ الدكتور حازم الببلاوي دراسة قيمة عن هذه العقلية التي اعتادت الحصول على الثروة والدخل كمغنم سهل غير مرتبط بالعمل والجهد ودورة الإنتاج، وإنما بربح سهل يحدده مسافة قرب وولاء الشخص لنظام من طبيعته أن يعطي ويمنح أويحرم ويمنع، بلا رقيب أو حسيب، فيعز من يشاء ويذل من يشاء، هو نظام ريعي يستمد جذوره التاريخية من زمن الغزوات والغنائم والسبايا والجباية حيث كان ولي النعم يوزع عطاياه على المقربين كما يشاء ويمنعها عن الآخرين كما يشاء.

إن استشراء العقلية الريعية في العالم العربي أساس معضلة التأزم العربي كله أمام الولوج إلى عالم الحداثة وقيم الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، طبقاً لحازم الببلاوي الذي يؤكد أن المشكلة ليست في (فائض الريع) المادي بل في (الفكر الريعي) وأسلوب إدارته لهذ الفائض الريعي.

العقلية الريعية هي نتاج مجتمع عوده نظامه السياسي على أساليب المنح والعطايا والمكرمات وتقديم الخدمات بلا بذل جهد أو مشاركة في إنتاج مقومات عيش، كما عوده على الاستدانة للإنفاق السرفي على المظاهر الاستهلاكية والترفية بغير حساب.

أخيرًا.. إن الخروج من حالة عطالة الثقافة الريعية وعقليتها الاتكالية الأسيرة لمغانم الاقتصاد الريعي إلى حالة عقلية وثقافة الإنتاج والعمل والابتكار والإبداع والقدرة على المنافسة التجارية الحرة والتحرر من التبعية لمغانم الطاقة الأحفورية وتنويع مصادر الدخل والإنتاج يتطلب أولاً: وعياً مجتمعياً غلاباً، كما يتطلب إرادة سياسية حازمة حاسمة، وإدارة كفؤة، وقبل كل ذلك وبعده توجيه الاستثمارات في الرأس المال البشري خياراً استراتيجياً يشكل الدعامة الأساسية في خلق الثروة وتحقيق التنمية والتوازن والاستدامة والمحافظة على البيئة طبقاً للمفكر الجزائري عبدالقادر بن قرينة رئيس حركة البناء الوطني.

يتبع،،،

** كاتب قطري