ناصر أبو عون
من خالط أهل عُمان الخُلّص المُخلَصِين وجدهم إباضيةً في إعمال العقل والتأويل، وسُنّةً في العمل بالتنزيل، ووسطيين في التشيّع لآل البيت وأنصارهم والصحابة من المهاجرين؛ لا يألون جهدا في إطفاء نيران الفتنة المذهبية أينما شبّت نيرانها، ويئدون النعرات الطائفية إذا استعر أوارها، لم تعرف المناطقية المقيتة طريقها إلى عقولهم، وفي كل محفل يفقأون سهام الخلاف بعيون آرائهم الصائبة.
قضاتهم وفقهاؤهم خرجوا من أصلاب عرق نبيل، فلم يخالط أنساب فكرهم تطرف دخيل، ولم يعرف الحيف إلى أحكامهم سُوء السبيل؛ تأبطوا الحق سيوفا قاطعة، وتورّمت أقدامهم بحثا عن الحُجَّة المانعة من الزلل، وربطوا على بطونهم أحجار العدالة الكاشفة عن معدنهم الأصيل؛ وقبضوا أيديهم على جمرة الإسلام المعتدل، ولم يقفوا بأبواب الأمراء طلبا لعرض زائل إلا لأمر جلل فيه صلاح الأمّة من العلل، وأبوا الدَّنيّة في دينهم ودنياهم، فلم تدنس أجوافهم عطايا أمراء الملل والنحل، ولم تحنِ رؤوسهم الخطوب والمحن.
وبالبحث في تاريخ مؤسسة القضاء العُمانية التي تزخر بدرر سنيّة من القضاة الأدباء الذي انتظموا في سلك العدالة، فصارت سيرتهم الذاتية صورة مرئية وذهنية مثبتة داخل إطار تاريخي مطرّز بمنمنمات وفسيفساء تسطع في سمائها أنوار الحق، وتزهو بتاريخا الذاكرة العمانية، وتفاخر بتراثها الأجيال المتعاقبة، لا ينقطع أثرها، ولا يندثر إرثها، ولا تخبو أحكامها؛ كان للطائيين أن يتفاخروا بتواضع لا يخالطه كبرياء بأن لهم ثلاثة أقمار مضيئة في سماء العدالة والفقه، استمدوا أنوارهم الساطعة من شمس قيم القضاء العُمانيّ الشامخ، وتاريخها العريق الذي لن تنطفىء ذبالته، وتبقى شعلة يحملها الأحفاد من جيل إلى جيل.
في هذه المقالة التمهيدية نتذكر ثلاثة من الأعلام يتقدمهم قاضي قضاة مسقط، وهو لقب اختصَّ به دون غيره وهو (الشيخ القاضي عيسى بن صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف الطائي فقيه وقاض وشاعر؛ زهت بمولده ولاية سمائل الفيحاء عام 1306هـ / 1889م، ورحل عنها إلى مسقط واستقرّ في (بوشر)، وهو من شعراء القرن العشرين النابهين وأول عُماني ازدانت جريدة الأهرام بقصيدته العصماء في مطلع القرن المنصرم، وينتسب إبداعيا إلى مدرسة (الإحياء والبعث)، ومن آثاره الأدبية الزاهية كتابه: «القصائد العُمانية في الرحلة البارونية»، [حققه وراجعه "سلطان بن مبارك بن حمد الشيباني"، وصدر في طبعة منقحة عام 2013 عن مؤسسة "الرؤيا للصحافة والنشر" بالتعاون مع مؤسسة "ذاكرة عُمان" و"مكتبة مسقط"]»، وتُعدُّ قصيدته (السِّينية) من عيون قصائده في شعر المناسبات الوطنية، وموضوعها تهنئة شعريّة "للسلطان سعيد بن تيمور" بمولد نجله "السلطان قابوس" في صلالة، والتي قال فيها: «بُشرى فقد أحيى البشير نفوسا// وأدار من خمر السرور كؤوسا// وافى يزف إلى البلاد بشائرا// والكل أصبح بالهنا مأنوسا». وتوفي فيها عام 1362هـ/ 1943م). نقرأ له من قصيدة (للحق نور):
للحق نورٌ سناه مشرقٌ أبدا
لو أنكرته عيونٌ أُملئت رمدا
///
وإن غدا برهةً بالحُجب مستترًا
فإنما نحن لم نمددْ إليه يدا
///
تباركَ الله نور الحق منبلجٌ
فأشرقت بسناه الأرض حين بدا
///
فالحقُّ في جذَلٍ والبُطل في وجَلٍ
والبَرُّ في سُعُدٍ والبحر قد ركدا
///
قامت عُمانُ على ساق النجاح ولو
تأخّرت زمَنًا ما استيقظتْ أبدا
///
قامت تُدافع عن دين الإله ولم
يجد مرامًا سوى من جَدَّ قد وَجدا
///
فالغربُ في دَهَشٍ مما تحاوله
والشرق من فرحٍ لا يعرف الكمدا
وتسلّم من بعده راية القضاء والأدب أخوه (الشيخ محمد بن صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف الطائي)، من مواليد مسقط، نشأ فيها وترعرع في أفيائها مطلع صباه، فلمّا شبّ عن الطوق لازم مجلس أبيه قاضي مسقط فدرس على يديه أصول الفقه وِفْقَ المذهب الإباضيّ، وطفق ينهل من معينه اللغويّ فحوى علوم البلاغة، وجمع فنون البيان في صدره وخطّها في كراريسه، وطلبا للاستزادة من علوم العربية على اختلاف فروعها رحل إلى سمائل الفيحاء مسقط رأس أجداده ليدرس على شيوخها المتون والأصول؛ فلمّا اشتد عوده العلميّ، وصفت مشاربه، وتشرّب فنون القول، ورسخت قدمه في ميدانها، ونضج فكره في جنباتها، واستقام لسانه في أسياحها، انتقل إلى نزوى بيضة الإسلام فجلس إلى أشياخها، وكرع من أفلاج العلم في مرابعها وقرأ الأصول على أسماع أقطابها، ثم عاد إلى مسقط قاضيًا في المحكمة الشرعية في عهد السلطان تيمور بن فيصل، فلما حاز باعا طويلا في مؤسسة القضاء، انعقدت له الولاية مرةً أخرى في عهد السيد سعيد بن تيمور وارث عرش عُمان إلى أن وافته المنية.
ومن المحزن أن آثاره الشعرية اندثرت، وضاع الكثير من إنتاجه الأدبيّ لعوامل شتّى، وقد ورد ذكره في كتاب «أبواليقظان الحاج إبراهيم: سليمان الباروني في أطوار حياته - الدار العمانية - مسقط 1956م»، وعثرنا على أول ترجمة أدبية لمسيرة حياته الأدبية عند «محمد بن راشد الخصيبي: في كتابه: «شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عمان - وزارة التراث القومي والثقافة - مسقط 1984» وقد أثبت للشاعر القاضي بين دفتيه قصيدة واحدة ، تتكون من سبع عشرة بيتًا، «نظمها في تحية واستقبال موكب الباروني باشا (المجاهد الليبي)، يمدح فيها شجاعته وبطولاته الحربية وقدرته على التصدي للقوات الغازية، والقصيدة تتسم بسلاسة اللغة وطلاقة التعبير وبساطة التراكيب، فيها بعض مبالغة وتنزع إلى التقليد في معانيها وصورها»، كما أثبت «سعيد بن محمد الهاشمي ترجمة وافية الأركان في كتابه: غاية السلوان في زيارة الباشا الباروني لعمان، مطابع النهضة (ط 1) - مسقط 2007» ومن أبيات قصيدته اليتيمة قرأنا له:
أهلا بليث الجحفل الجرّارِ
مُرْوي العِدا بحُسامه البتَّارِ
///
أهلا بمنصور اللّوا عالي الذّرى
جلدٍ لكل كريهةٍ صبَّار
///
كهفِ الندى غيثٍ إذا ضنَّ الحيا
جادت يداه بديمَةٍ مِدْرار
///
أهلاً بمن شهدتْ له أعداؤُه
والريُّ مثل الوابل الفوّار
///
حتى غدوا من بأسه في حسرةٍ
وتشتُّتٍ وكآبةٍ ودمار
///
فلئن أُتيح لهم مرامٌ في الذي
قد أمَّلوا بسوابق الأقْدار
///
لم يطمئنُّوا آمنين فإنَّما
تحتَ الرماد بقيَّةٌ من نار
///
إيهٍ بني الطّليان كيف قراركم
في أرض قومٍ كالأسود ضَوار؟
///
آل البَروني شدتم صرح الهُدَى
ورفعتُمُ منه رفيعَ منار
///
فخرًا سليمان بن عبدالله قد
بَهَرَتْ صفاتُك ناظمَ الأشعار
///
حُيِّيتَ يا بطلَ العُلا من زائرٍ
اِنزلْ بخير حِمًى وخير مزار
///
هَذي عُمانُ دارُ قومِكَ طالما
غُبطت نفوسٌ فيك مذ أعصار
///
شَرُفَتْ سمائلُ إذ نزلتَ بسوحها
بجوار فخر العرب خيرِ جِوار
///
أعني إمام المسلمين محمّدًا
عينَ الزمان وصفوةَ الأبرار
///
من بعدما شرّفتَ مسقط نازلاً
بحمى مليكٍ سيِّدٍ مِغْوار
///
هذا وخيرُ صلاةِ ربّي دائمًا
لنبيِّه وحبيبهِ المختار
///
والآلِ والأصحابِ ما سجعتْ على
فننِ الغُصون سواجعُ الأطيار
أما العلم الثالث من أعلام الأدب والقضاء من الطائيين الشعراء فهو «الشيخ هاشم بن عيسى» المولود في ولاية سمائل، فقد درس "أصول الدين" فحوى في قلبه الشروح والحواشي، وقبض بقلبه على متون "الفقه على المذهب الإباضي"، وبرع في "علوم اللغة" ونهل من معين المشايخ الأعلام، والأقطاب الأفذاذ، وقرأ عليهم، واقتطف من ثمار أشجارهم اليانعة، فلمّا استوى على سوقه جلس إلى الشيخ حمدان بن يوسف اليوسفي، وعَبَّ من معينه ما وسعه الفؤاد النابه، ثم ورد عين العلم الفوارة المتدفقة للشيخ حمد بن عبيد السليمي؛ فارتوى من مصاصة فكره، وذاق عصارة علمه، وتردد إلى خيمة الشيخ سعيد بن ناصر فحفظ عنه الأصول، فلمّا انتهى واستوى أسندوا إلي كرسيّ القضاء في عدد من الولايات، وذاع صيته، واتسعت خبرته، وعلا شأنه، فارتأى وليّ الأمر أن يوكل له مهمة الإعداد والتأهيل والتدريب بمعهد القضاء في «روي».
له آثار شعرية متناثرة في بطون الكتب وصدور معاصريه، واشتهر أغلب نظمه بقصائد تحث على طلب العلم، وبرع في فنون المديح وأكثر مقطوعاته المأثورة والشهيرة جاءت في مدح السلطان سعيد سلطان عُمان؛ نذكر منها:
وافى السرورُ وكل الهمِّ قد ذهبا
والحمد لله إن الحمدَ قد وجبا
///
وأشرق الكون بالبدر الذي طلعت
أنواره بظفارٍ جاء عنه نبَا
///
إني أزف التّهاني والبشائر للـ
ـملك المعظَّم فخرِ السّادة النجبا
///
سعيدُ مَن سعدتْ أيامه وصفتْ
أوقاته فَعَلا فوق العُلا رتبا
///
أبشرْ بميلاد قابوسٍ وطلعته
ياذا الجلالة واشكر للذي وهبا
///
حازت ظفار جميع الفخر وابتهجت
في يوم ميلاده واستبشرت طربا
وتقع معظم فرائده الشعرية تحت باب " المناسبات "، وتتوزّع آثاره الشعرية على كتب عديدة من أهمها: «باقة من الشعر العماني»، و«قلائد المرجان»، و«شقائق النعمان»، و«السموط الذهبية في الأسئلة والأجوبة الفقهية والأدبية» واشتهر بين معاصريه بإجادته فن «المطارحات الشعرية» ويدور أغلب منظومها حول علوم اللغة وأصول الدين يوجهها إلى أقرانه من العلماء والفقهاء المتكلمين، وهي منظومات علمية على البحور الخليلية، بلغة بسيطة، وألفاظ يسيرة لأن القصد منها التعليم والإفهام لا التفنن في علوم البيان.