القيادة والتطوير

 

‏د. عبدالله بن سليمان المفرجي

 

إنَّ إدارة عملية التطوير في ظل عالم يعج بالتغيرات والتحولات الجذرية المُتسارعة لابد له من أجهزة متمكنة تدير عملية التغيير وتساهم في مواكبة تحقيق متطلبات الثورة التكنولوجية والمعرفية لتعزيز ودعم مسيرة التنمية المستدامة التي يشهدها العالم، فبناء الإنسان يعد أفضل استثمار في الكون.

يقول المفكر الجليل مالك بن نبي في كتابه "شروط النَّهضة": "إن الحضارة إنسان وتراب وزمن، وكل ما عدا ذلك من مبان وصناعات يعد من المكتسبات لا من العناصر الأولية"، وقد أدركت المجتمعات بالدراسات والأبحاث أنَّ أفضل استثمار يكون في المراحل الأولى من حياة الإنسان، لذلك كان لازماً أن تحشد الإمكانيات والجهود والمواهب نحو الارتقاء بالإنسان وإعداده ليحمل راية البناء والتطوير في الكون، فلا يُمكن هزيمة شخص يعرف كيف يتجدد ويصنع نفسه كل يوم ويضمد جراحه بذاته، وذلك لا يتحقق إلا بتوليه زمام الأمور للواعين المتوقدين نشاطا وحيوية وعلماً ومعرفة، فالقائد هو تاجر الأمل وبنّاء المستقبل المشرق "لا يمكن تطبيق أفكار جديدة بواسطة رجال يعتنقون أفكاراً قديمة" (غازي القصيبي).

 فالمؤسسات الناجحة عبر العالم لا يمكنها أن تنتظم كعقد اللؤلؤ والمرجان في مسيرة التقدم والارتقاء من غير قيادة ترسم لها خارطة الحياة الحاضرة والمستقبلية، وفي الاتجاه الآخر نجد الفشل في الإدارة يقود العالم في قارب الثورات وبؤر الصراعات، كأن القيود على معصمه، وتتلاطمه أمواج العاديات وتأخذه في غياهب الجب وتقذفه نحو اتجاهات مجهولة بلا بوصلة نجاة. لذلك وجدت تلك التجارب نفسها في مأزق، لأنها فشلت في صناعة قيادتها المُعبرة عنها، فتحولت إلى حالة مضطربة ذات أهداف مجهولة أو سرابية في بيئات يقود دفتها قادة لا يجيدون تماماً سوى لعبة توبيخ مرؤوسيهم، وطمس إبداعاتهم ويخشون التجارب الجدية ويرفضون التطوير ومغادرة "المناطق الآمنة"، لا يفقهون سوى خلق الشعور بالدونية والتقصير والنقص لمن حولهم. فتجد من هؤلاء لديه هواية انتقاد من تحت سلطته وتسفيه أحلامهم، في حين يسعى البعض جاهداً كي يكون نموذجاً يحتذى به في عمله وسلوكه، فإنّه بذلك يجبر الموظّف على التشبّه به، ولا شك أن المرؤوسين يتعلمون قدراً كبيراً من المعارف والقيم حيث تكون الغايات والقيم غير مُعلنة صراحة.

لكن عندما يطلب القائد من الموظّف انتهاج سلوك ما ويفعل القائد عكسه، فهو بهذا يبعث برسالة خفيه إلى الموظّف بأنّه (أي القائد) لا يرضى بالسلوك السوي، وربما يتهاون في نشر الظلام بين مرؤوسيه، فتنشر بعض السلوكيات الخاطئة في الإدارة كالمحسوبية والوساطة والرشوة...إلخ، والتي تدفع فعلاً العاملين في الأجهزة المختلفة إلى ممارسة هذه السلوكيات المضطربة مما يثير التناقض بين ما هو مطلوب من الناحية القيمية والقانونية وبين ما يمارس في الواقع.

من ناحية أخرى، فإن تطبيق مبدأ الإدارة الأمينة في المنظمات الإدارية بوصفه مطلباً حتمياً من مطالب التنمية الإدارية يواجه بمشكلة حقيقية تتمثل في تأثر الإدارة جمعاء بمؤثرات خارجية، والتي أصبحت جميعها تشكل جزءاً من واقع قيم وثقافة المجتمعات، وقد أوشك الرأي العام في كل دول العالم أن يقتنع بأنه لا توجد وسيلة أخرى للتأثير على النَّاس سوى من الإدارة بالقدوة أو التعليم بالقدوة، فلابُد من السعي لبناء قادة قدوة، فهناك الكثير من الشواهد التي تمدنا بها وسائل الإعلام المختلفة والتقارير العالمية التي تشير إلى أن عدداً من المسؤولين عبر العالم قد تورطوا في العديد من المخالفات السلوكية والإدارية، ومع ذلك ظلوا قابعين في مراكزهم الوظيفية. وقد أعطى هذا الواقع انطباعاً لدى "الجهلة" بأنَّ ممارسة تلك السلوكيات هي أحد المعايير التي يمكن على أساسها الوصول للقمة وهو بالطبع اعتقاد خاطئ في مجمله (الأيوبي، 1406هـ المركز الدولي للتدريب، 1999م).

وإذا كان التاريخ البعيد يحفظ لنا ما كان يفعله الفاروق سيدنا عمر بن الخطاب من أعمال كي يقتدي به من بعده فلم يكن الفاروق متساهلاً في الحق حتى في المواقف البسيطة، لأنَّ الخطأ البسيط يولد خطأ كبيرا، والتاريخ حافل بالروايات حول بأس عمر وشدته في سبيل إقرار الحق، ولكن الرأي العام العالمي اليوم ينظر بإعجاب إلى هذه «النسخة من شبل التربية المحمدية» إنها: القيادة بالقدوة. وطيب الله ثرى صاحب الظلال حين قال: "ستظل كلماتنا عرائس من الشمع لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة " وهل نموت من أجل كلمات لم نعش لها؟ ولم نتخلق بها؟ ولم تتحول إلى واقع في حياتنا"؟! وبغض النظر عن المشكلات التي تواجهنا فإنَّ ذلك لا يلغي حقيقة كوننا نستطيع أن نواجهها؛ فالمناهج التربوية والنظم القانونية والقيم مجرد حبر على ورق، وكلمات لا روح فيها، حتى تطبق على أرض الواقع ويتخلق بها، فيصبح المُجتمع مثاليّاً مُحاولا البحث وإيجاد حلول جذرية لمشاكل العمل ومُعوقاته، وتحقيق طفرات تساهم في الاقتراب من سواحل مدينة أفلاطون الفاضلة.

تعليق عبر الفيس بوك