قصة "القهوة"

خالد بن سعد الشنفري

العديد من الروايات يتم تداولها عن اكتشاف القهوة وعن انتشارها إلى سائر أرجاء العالم بل إنَّ بعض هذه الروايات أصبحت أشبه بالأساطير، الذي يهمنا معرفته منها روايتان، الأولى؛ ارتبطت بكالدي راعي الغنم الإثيوبي الذي لاحظ آثار النشاط على قطيعِه بعد مضغه لثمار شجرة برية تشبه العنب الأحمر.

والثانية، ارتبطت بالصوفي اليمني نور الدين الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية، الذي لاحظ أثناء إحدى سفراته لإثيوبيا أن الطيور التي تنقر ثمار هذه الشجرة تتصرف بنشاط زائد فتتبع ذلك. أما انتشارها خارج أثيوبيا فقد ارتبط بلا منازع بالإمام المتصوف اليمني محمد بن سعيد الذبحاني، الذي كان أول من جلبها إلى اليمن، وزُرعت وانتشرت هناك، وانتقلت بعد ذلك عبر الوالي العثماني في اليمن إلى بلاط السلطان العثماني في إسطنبول، ومنها إلى بقية الدول العربية والعالم الإسلامي، حتى وصلت إلى إيطاليا عن طريق ألبانيا، ومن هذه الأخيرة انتقلت إلى كل أوروبا ومنها إلى أمريكا. ودخلت كلمة coffee الإنجليزية عام 1582 عن طريق التسمية الهولندية koffie والتي اقترضت بدورها من الاسم العربي قهوة، ويحتفل العالم اليوم بعيد القهوة في الأول من أكتوبر من كل عام.

كثُر استعمال البن أو القهوة في العالم الإسلامي وأصبح مرتبطًا عند البعض بالشعائر الدينية واعتبرها البعض منهم بديلا عن النبيذ الذي تمَّ تحريمه، وتم ربطها في مراحل باحتفالات المولد النبوي الشريف، ويقرنها اتباع الطريقة الصوفية الشاذلية فى اليمن وبعض الدول الإسلامية باسم الشاذلي، وكانوا يحتسونها كي تساعدهم على تأدية طقوسهم وطرقهم المختلفة للتعلق بالله، وسميت عند البعض منهم بالشاذلية، نسبة إلى الشاذلي، ولا يزال عالقاً بأسماعنا أدعية مثل "الشاذلي والخامري وكل صالح ولي"؛ حيث كان لدى المجتمع الظفاري مسحة من التصوف الحميد لا زالت متبقية منذ عصر العلامة المتصوف الشهير محمد بن علي صاحب مرباط قبل أكثر من 8 عقود خلت، وكانت القهوة تُقدم عندنا في الموالد وفي قراءة القرآن لثلاثة أيام العزاء إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي، وهي على نوعان هما: القهوة العمانية المرة وأخرى مسكرة تسمى حضرمية.

وقد اتخذت القهوة في بعض العصور في بعص البلاد الإسلامية كمساعد على أداء فريضة الصيام في النهار والبقاء مستيقظين في الليل، إلا أنها حظرت وأحياناً حرمت فى مراحل في العديد من مناطق العالم الإسلامي، ففي عام 1511م تم حظرها من قبل الأئمة السلفيين المحافظين في المحكمة الشرعية بمكة المكرمة وتم إلغاء الحظر بعد عدة أعوام في العام 1524م بأمر السلطان العثماني سليمان الأول مع المفتي المشهور حينها محمد الأحمدي وقد حُظرت في عمان لفترة حتى حللها أحد الأئمة بقصيدة شهيرة تبتدئ بـ"هذه القهوة هذه" وحرمت في مصر أيضا حتى قام أحد علماء الأزهر بتجربتها على 10 من طلابه فوجدهم أكثر تركيزًا ولا آثار للسُكْر لديهم منها فأطلق فتواه بتحليلها.

 

كان لفقهاء عُمان نصيب من الجدل الفقهي حول القهوة، كما حدث في الكثير من الحواضر الإسلامية بين التحريم والتحليل، وعندما استقر الأمر بينهم على التحليل، أصبحت القهوة حافزا على الإنتاج الأدبي؛ بل والفقهي أحيانا، وأُلِّف عنها العديد من الكتب والكثير من القصائد الشعرية، وأصبحت سلعة اقتصادية مهمة لعمان؛ حيث أصبحت عمان همزة وصل في تجارتها بين المُنتج المُصدِّر في اليمن والمستهلك في الخليج والعراق والشام ومصر وتركيا وأوروبا عن طريق أسطول عمان التجاري الشهير حينها، أو ما كان يسمى "مراكب القهوة" وارتفعت بذلك مكانة موانى عُمان في العالم كميناءي مسقط وصور.

القهوة العربية الأصيلة لونها يتدرج بين الأصفر الغامق إلى الأسود حسب درجة تحميس حبوب البن ويشتهر بها أهل شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام ومصر بالإضافة إلى اليمن بالطبع وقد أدرجت ضمن قائمة التراث العالمي غير المادي ولا تختلف إلا قليلا بين مناطقها حسب الإضافات كالفرق بين العمانية والسعودية مثلاً إلا أن القهوة التركية المعروفة غزت بدورها العديد من هذه الأقطار بالذات مصر والشام واليوم حدث ولا حرج عن أنواع القهوة التي غزت هذه الدول مع غزوها للعالم أجمع.

شخصياً لم تحولني أي من هذه الأنواع الحديثة أو ما تسمى بالعالمية عن قهوتنا العربية الأصيلة، فلا يعدل المزاج غير قهوتنا العمانية، ولذعة القهوة السعودية في طرف اللسان، ولا يعيد لي التوازن في الإفطار بعد الصيام إلا فنجان أو اثنان منها وبعدهما الماء. ويأتي بعد قهوتنا العربية القهوة التركية غير المُسكَّرة بالطبع، أما ما يعرف بالإسبرسو (رغم تركيز كثافة البن فيه) وما يقال عنه أنه من أجود وأغلى أنواعه، وكذلك ما يعرف بـ"الأمريكانو" وأخواتهما، فإنني استغرب بالفعل من إقبال أجيالنا ذكورًا وإناثًا عليها، رغم غلاء أسعارها غير المبرر، ولا أعرف هل هي ذائقة فعلًا أم مجرد تقليد أعمى؟!