في أحضان عروس البحر الأحمر.. "ذكريات وتأملات" (1)

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي **

** كاتب وأكاديمي

 

لم تكن علاقتي بمدينة جدة تلك المدينة الوادعة الرابضة على ضفاف البحر الأحمر ولا بالمملكة العربية السعودية بشكل عام مرتبطة بالمرحلة الجامعية فقط، بل تعود إلى ما قبل ذلك بسنوات، حيث كنت أحد رواد مكتبة مركز الوعظ والإرشاد ومن مرتادي حلقات الوعظ والإرشاد والعلم التي كان يقوم بها الوعاظ المصريون في بعض مساجد ولاية صحار في أواخر سبعينات القرن الماضي.

كان هذا المركز مبنى مكونًا من طابقين مستأجرا من أحد كبار مقاولي صحار وهو الحاج المرحوم محمد بن صالح العطار، وكان يطل على البحر في حلة الشيزاو، على ما أذكر. وكانت توجد مراكز أخرى مشابهة له في كل من مسقط وجعلان وصلالة على ما أذكر. وعندما أكملت المرحلة الإعدادية شجعني عدد من أبناء الولاية على الدراسة بمعهد رأس الخيمة العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وأثناء دراستي في المعهد توطدت علاقتي بعدد من قضاة المحكمة الشرعية بصحار، بسبب التحاقي بالعمل في هذه المحكمة في الصيف ضمن برنامج تشغيل الطلبة في العطل الصيفية الذي كان مطبقاً في بداية الثمانينيات.

وبعد إكمال السنة الأولى في هذا المعهد المتخصص في تدريس العلوم الشرعية واللغوية، أرسل في طلبي معالي السيد المرحوم سلطان بن حمود البوسعيدي مستشار الدولة للشؤون العدلية يومها، الذي كان جارا لنا في منطقة الهمبار وصديق لجدي وأعمامي، والذي كانت تربطني به علاقة طيبة حيث كنت أتناقش معه في بعض القضايا الدينية. وكان ذلك عبر أحد العاملين معه في المنزل وهو الحاج/ خميس بن خلفان، وكنّا نسكن في منزلنا أمام مستشفى صحار المركزي (سابقًا) في الحي التجاري في الهمبار، وكنت في الإجازة الصيفية .

وعندما عدت إلى المنزل وجدت والدي ووالدتي في حالة توجس مما قد أكون فعلته ليُرسل السيد سلطان بن حمود وهو معروف بالصرامة والجدية في حياته منذ أن عرفه أهل صحار والياً على صحار أواخر الخمسينات إلى أوائل السبعينات من القرن الماضي. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن السيد سلطان- رحمة الله- عليه كان مرجعًا في العلوم الشرعية الأمر الذي أهله ليكون وزيرًا للداخلية والعدل ومستشارًا للدولة للشؤون العدلية ورئيسًا للجنة التظلمات، وسمعت أنه وكان والياً على صحار لمدة 17 عامًا. وبالفعل ذهبت لمقابلته في منزله في الشعبية القريب من مسجده الذي كنت دائم الصلاة فيه، عندما أكون في صحار، فقال "اجلس يا ولدي ولا تقلق". أنا دعوتك لأرشحك لمعهد القضاء الشرعي لما سمعته عنك من خير، فقلت له إنني أكملت السنة الأولى في معهد رأس الخيمة العلمي، فقال "سوف أعطيك خطابًا لمعهد القضاء تُقبل بموجبه في السنة الثانية"، فاعتذرت لمعاليه بأدب ولطف، أن لي زملاء من صحار وأجد صعوبة في تركهم فقال "الأمر راجع إليك يا ولدي".

والذي يجب ذكره هنا أن السيد سلطان من القلة القليلة في فترة ما قبل السبعينات الذين كانوا يتمتعون بمعرفة ودراية بالأمور الدينية والشرعية، وكان بعض الولاة يناقش قاضي الولاية في بعض الأحكام الشرعية. وكانت تربطني في تلك الفترة علاقة طيبة ببعض قضاة المحكمة الشرعية كالشيخ/ غسان بن سليمان المزروعي والشيخ سليمان الكندي والشيخ الدكتور عبد الله بن راشد السيابي.

وعندما قررت الاغتراب عن أهلي وأقاربي وحيدا للمرة الأولى لطلب العلم، اتخذت قراري وحسمت أموري أن أنافس على المركز الأول فكان الأساتذة السعوديون لا يسألون سؤالاً إلا وكنت أول من يرفع يده للإجابة، لأني كنت أحضر الدروس وأراجعها قبل الحضور للفصل، فما كان من أحد الأساتذة إلا أن قال كلمة مشهورة "إنَّ الذين كانوا يتنافسون على المركز الأول لا يحلمون بهذا، فلدينا طالب جديد أتوقع له هذا المركز"، وقال إنني لألمح في عيني هذا الطالب قول الشاعر أبي فراس الحمداني:

ونحن أناس لا توسط عندنا // لنا الصدر دون العالمين أو القبرُ

وأذكر أن الاثنين اللذين كانا يتنافسان على المركز الأول قبل مجيئي هما طالبان أحدهما من عمان من خصب، أصبح قاضيا في المحكمة العليا بالسلطنة، والثاني إماراتي من سكان رأس الخيمة من أصول قطرية، سمعت أنَّه أصبح وكيلا لإحدى الوزارات في دولة الإمارات العربية المتحدة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة