الطائيون القضاة الشعراء (8)

قراءة في التجربة الشعرية للشيخ حمد الطائيّ

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

جاء في كُتب الأولين أنّ «أبو نُواسٍ فقيهٌ غَلَبَ عليه الشِّعرُ، والشَّافعيُّ شاعرٌ غلبَ عليه الفِقْهُ»، وفي دراستنا للمأثورات الشعرية التي خلّفها الشيخ حمد بن عيسى الطائي- وهي مخطوطة في ديوان جمعه أبناؤها من أوراقه ومن صدور أصدقائه- وجدنا شاعرًا أصيلَ الألفاظ، جزلَ العبارات، يرسم بريشة سنها مغموس في محبرة القلب؛ غير أنه غلب عليه فن التجارة، فصرفَ جُلّ عمره لها، ولكنه يستسلم للشعر حينما يدخل عليه عنوةً مخادعه، ويستنهض قلمه من سباته، ويخوض به في بحار المعاني، ويقتطف معه رحيق البلاغة، ويسبح برفقته في لجّة الصور الشعرية؛ فيقف على رؤوس الأبيات شاديا، ويستظل تحت أشجار الخليل الفراهيدي، ويذيب وجدانه في كؤوس الحنين، ويفري حشاشة قلبه ويبثها وينثرها حَبَّا لطيور الكلام فتشدو فوق أشجار الشجن شعرا غنائيا ينزّ بالحكمة، ويقطِّرُ شهد التجارب في فم الأيام صورا تتشظى في سماء الشعر نجوما تتلألأ، فيسوقها ويهشُّ عليها بعصا الحكمة.

والمتبحّر في شعر الشيخ حمد الطائي سيطالع ملامح شخصيته مطبوعة في قصائده، فالرجل كان كَلِفًا بالجِدِّ والمثابرة، له أنفة وكبرياء يُضرَبُ بها المثلُ بين معاصريه فليس ممن يرضى الدنيّة في تكسّب رزقه، يأبى الدِّعة التي تورث فقرا، ويمجُّ الاستنامة والركون إلى الراحة والمؤانسة؛ انظر إلى هذا المعنى الذي صار من عيون شعرة المأثورة التي تجري على الكثير من الألسنة:

«لا أرتضي ذلًا بقرب عشيرتي // بل أبتغي عزًا يشط ويبعد»

«فلسوف أقتحم البحار مغامرًا // حتى أنال من العلا ما أنشدُ»

وفي إحدى مقطوعاته الشعرية نراه يفخر بشعره، ويعدِّدُ سمات قصائده، ويعتزُّ بما خطت يمينه من قصائد نابضة بالحياة، لا يقلّد فيها سابقًا، ويغوي بها لاحقا؛ إنما يأتيه الشعر بِكْرِ الحرفِ، عذريَّ البلاغة، بهيَّ الصورة، غير متكلّف، ولا مستسهل تداعي المعاني؛ وهذا ما تنطوي عليه الأبيات الآتية:

«وإليك مني يا زمان قصيدة // ذكراك تبقى بينها وتخلد»

«وأنا الذي شعري يفيض سلاسة // وبنغمتي كل الطيور تغرد»

«وسموت في أفق البلاغة رافعا // للشعر رايات بفخري تشهد»

فإذا ما تمعن القاريء في حقيقة وبِنَى الصور الشعرية التي تتناثر نجومًا في سماء قصيدة الشيخ حمد بن عيسى الطائيّ، تراها مركبةً وتتناسل وتتولّد، وتُزاوج بين المجاز والتشبيه والاستعارة متأثرةً ببراعته اللغوية في البناء النحوي للجملة الشعرية التي تتخذ من العروض قالبا، ومن الموسيقى الخارجية ترانيمَ تضج بالإيقاع، ومن القافية متكئًا تستندُ إليها وتجعل منها محور الارتكاز، فإذا ما تمعنت النظر وأجلت البصر، واستدركت المعاني والصور وجدت نهاية البيت تشبه (القُفْلَ) في نهاية الموشح الأندلسي؛ وفيها من المفارقة والمؤانسة ما يأخذك إلى عوالم شتى؛ كأنما (يصيخُ للنبأة ِ أسماعهُ // إصاخَة َالنّاشِدِ للمُنْشِدِ) فهو القائل:  

«إلى شعري ترى الأدباء تهفو // كما تهفو العقول إلى نهاها»

«تخال عروضه كنجوم ليل // تفاخر بالضياء على سواها»

فإذا ما عرّجت على أبيات الحكمة في شعر الشيخ حمد الطائي؛ فتراها جواهر في جبين القصيدة، وملاحة تزهو بها الكلمات من مبتدأ الشطر إلى القافية، ومضرب أمثال اقتطعها الشاعر من لحم التجارب التي ألمّت به، ودُررا كريمة صاغها من بنات أفكاره، ودماءً أجراها في شرايين شعره روحاً فيّاضة بالمعاني الزاخرة، لم يصغها على نموذج سابق، ولم يقلّد فيها شعراء أهل زمانه ولا التالدين من شعراء العربية الزاهرين. اقرأ له هذه الأبيات لتدرك البراعة التي يمتاز بها في إتقان السبك، والخبرة التي يستعين بها في نشدان المعنى وإجرائه مجرى المثل العربيّ:

«وبمهجتي نار يزيد ضرامها // وبي الحوادث ثوبها يتجدد»

«يا دهر رفقك بالكرام أسمتهم // ما زلت تفني جمعهم وتبدد»

«إن كان بعد العسر يعقبنا غنى // فمتى ترى يا دهر زرعك يحصد»

لقد كانت تجربة الشيخ حمد الطائي الشعرية الملجأ والخيمة التي ينفرد بها مع ذاته الشاعرة؛ انعتاق من الواقع بكل تماثلاته، وانفلات من أسر الحياة بكل خيباتها، وعزلة ومنفى اختياري يجلس فيه تحت قبّة الفكر الممزوج بالوجدان، يستظل فيها تحت شجرة المعنى، ويطفيء فيها فورة الشعور المتدفقة، يجمع بلوراتها، وينظم حبّاتها المتلألة في سلك الفكرة، ويعلّقها على عمود الموسيقى، فتبدو رؤية فنية محكمة السبك.

لم تكن القصيدة عند الشيخ حمد الطائي صنعة فنية، أو قوالب موسيقية متراصة، أو أفكارًا متشابكة في عُقد من الكلمات الناصعة البراقة؛ أو ينتظم لؤلؤها في سلك الوجدان؛ بل كانت محاولة لمقاربة العالم الذي يعيشه، بكل تجلياته، وبساطة المشهد اليومي، وحضور الإنسان بكل تكويناته وتناقضاته، ونزاعاته النفسية، وثورته الشعورية داخل بِنية النص.

إلا أننا نورد هنا قولا فصلا بأن قصائد الشاعر كانت تدور في فلك "المدونة الوثائقية"؛ بل كانت "كاميرا سينمائية" تلهث وراء الأحداث فتسجّل المشاهدات والرؤى، والخيالات، وتقف عند بعض المواقف فتغوص في التفاصيل، وتقترب أكثر من المنمنمات الاجتماعية والسياسية فتحيلها إلى عوالم كبرى.

وما بين الصورة التسجيلية، والرؤية الوثائقية يستند الشاعر إلى السرد حينا داخل النص الشعري ليتحوّل إلى حكّاء احترافي كبير لا تفوته التفاصيل الصغيرة، ولا يقفز على الأحداث العِظام، أو كما يقول ستيفن سبندر: "إن التجربة الشعرية هى إفضاء بذات النفس، بالحقيقة كما هى فى خواطر الشاعر وتفكيره، فى إخلاص يشبه إخلاص الصوفىّ لعقيدته، ويتطلب هذا تركيز قواه وانتباهه فى تجربته".

لقد أغرق الشاعر الشيخ حمد الطائي في استقصاء الحالات الإنسانية، والغوص في بحرها باحثا عن الكنز المفقود في نفس كل إنسان كتب عنه، أو موقف إنسانيّ التقطته كاميرا روحه الشاعرة وغرس سن قلمه في محبرة القلب ليسرد مكنوناته، ويسجّل مفرداته.

لم يكن الشيخ حمد الطائي كشاعر معنيًّا بالتجديد في بنية القصيدة؛ لأنه كما قلنا شاعر غلبت عليه التجارة فأسرته، واستهلكت طاقته النفسية، وكان الشعر ملاذا وشجرة وارفة الظلال يأوي إليها طلبا لنسمة عابقة تهب من الجنوب فتداعب خياله، أو تستمطر سحابات عابرة في سمائه فتسّاقط بردًا وسلاما على روحه الوثابة في دروب الحياة.

ولم يتفرّغ الشيخ حمد الطائي للكتابة الشعريّة، ولم يُعِر مسألة التنقيح وإعادة الكتابة التي يعكف عليها كبار الشعراء، ويواصلون الليل بالنهار في سبيل الخروج بقصيدة تسمو إلى الكمال ولن تبلغه مهما طال انكفاؤهم على مسودّات نصوصهم؛ بل سجّل الرجل قصائده على الورق كما انبثقت من وحي الحالة الشعورية التي يعيشها وتعتمل بين جوانبه؛ فجاءت القصيدة بكرا لم يمسسها قلم مُصححٍ، ولم تطالها ممحاة مراجعٍ، ولم يطأ عذريتها ناقد أو مصحِّف؛ بل احتفظ بها شاعرنا عارية من لبوس الصِّنعة، ولم يخلع عليها سرابيل تقيها من سهام النقد، ولم يضعها خلف متاريس القداسة؛ بل تركها تواجه مصيرها بعد رحيله عن عالم الأحياء.

وفي الأخير يمكننا القول: إن مطالعة ديوان الشيخ حمد الطائي برؤية ناقدة، وروحٍ عاشقة، ووعيٍ نفاذ يسبر أغوار النصوص على مهل، ويجيل النظر في المعاني بتؤدة وطول تأملٍ لا يداخله ملل ويبحر مع الشاعر في دهاليز التاريخ العُماني الحديث منذ خمسينيات القرن العشرين إلى أعتاب العقد الأخير؛ ستقع عينه على قصائد تدخل تحت مصطلح "التاريخ الموازي" للتاريخ الرسمي، وسيغوص في متون بعض المقطوعات الشعرية التي يمكن تصنيفها تحت باب "أدب الرسائل الإخوانية" تارة، وقصائد الاستنهاض الوطني والقوميّ تارة أخرى، غير أن عمود الخيمة الشعرية التي يجلس تحتها الشاعر الطائي يُصنّفُ بأنه شعر وطنيٌّ خالص يوثّق لمراحل التحرر والنهضة العمانية المعاصرة، ويرتكز إلى تجربة شعرية صادقة مع ذاتها ومتوافقة مع واقعها، وتعتز بتاريخها، وتعيش حاضرها بكل تجلياته.