هل من أحد هنا؟

فاطمة اليمانية

A7lam.alyamam@gmail.com

"من رحم المعاناة يولد الإبداع"

***

ليس ثمة قصّة هنا، لربما -ونحن نقف على أطلال عام راحل- أجدني في حاجة ملّحة إلى شيء مختلف، إلى معرفة إجابة عن تساؤل يدور في ذهني بعد نشر العديد من القصص في جريدة "الرؤية"، متذكرة أشهر عبارة في الأفلام، عندما يقف أحدهم متسائلا، وهو يطلّ برأسه:

  • هل من أحد هنا؟!

متسائلة:

  • هل من أحد يقرأ قصصي؟!
  • هل أستمر؟ أم أتوقف؟ لأحكي لنفسي الحكايات كما كنتُ أفعل من قبل؟!

وفي حقيقة الأمر أنّني لم أتوقف يوما عن نسج القصص والحكايات، ولم يحدث أن اتخذ دماغي موقفا محايدا تجاه الأحداث، فما يفوتني في الواقع أكمله في الحلم! ويوما ما حلمتُ أنّني التقيت بجميع أبطال قصصي، ودخلتُ معهم في جدال عميق! وقلتُ ساخرة:

  • هل من عاقل هنا؟!
  • لا أحد؛ ما دمتِ تسألين بهل؟!

وانتبهت في نهاية الحلم بأنّي أشاكسُ شخصيات قمتُ بنسجها، والكتابة عنها، والتندر عليها، أو اتّهامها بالسذاجة، أو الغباء! تلك الكلمة التي نستنكرها رغم إكثارنا منها!

  • الغباء!

من زرع فينا الظنّ بأنّنا أعلى قدرا من الناحية الذهنية؟ والآخرون مجرد حمقى! لا يدركون شيئا مما ندرك؟! من غرس في ذواتنا أنّنا أكثر فطنة! وأقوى حدسا! وأرهف حسّا! ومميزون جدا، ونادرون؟! ونسخة لا تتكرر!

كهذه النسخة الورقية التي وقعت في يدي -بعد العبث في أوراقي القديمة- لكاتبة مجهولة في أحد المواقع الالكترونية وصفت نفسها بأنّها "شهرزاد" العصر!

ولا أعرف الدافع الذي جعلني أطبع كتابتها، التي لم أتمكن بعد من تصنيفها إذا كانت مقالا أو خاطرة أو هذيانا! وتذكرتُ أنّ القصاصة طُبِعت عن طريق الخطأ، حين كنتُ أبحث عن موضوع بعيد كلّ البعد عن هذيان شهرزاد، فأكرمتني الطابعة بطباعة الموضوع، وطباعة هذيان شهرزاد، كنوع من أنواع الدعابة! أو العرض السخيّ الذي تجود به طابعتي:

  • اطبعي نصّا، واحصلي على هذيان مجّانا!

حاولت الولوج إلى الموقع الالكتروني مرّة أخرى بعد انقطاع عقد من الزمن، لكنّ ليس ثمّة موقع، ولا كتابات، ولا كاتبات، ولا كاذبات!

ولا أعرف سرّ الهجوم الذي تولد في قلبي تجاه "شهرزاد"، ولماذا لا أحبّها؟! ربما لأنّ ذلك النمط من التذلل في الكتابة النسائية لا يروق لي! ولم يحدث أن كتبت عن الحبّ والشغف! أو شعرَ قلمي بالتناغم مع مشاعر العشق الصاخبة! مع التنويه على أنّ الفقرة الأخيرة جميعها:

  • كذب في كذب!

كما حدث مع بعض طالباتي الصغيرات عندما تحلّقن حولي مستفسرات:

  • أستاذة.. كيف تكتبين القصص؟!
  • أصمتُ.. وأتخيل.. وأكتب!
  • ماذا نتخيل؟ ما معنى الخيال؟!
  • اختلاق أحداث غير واقعية؟
  • الكذب يعني؟!
  • قد لا يخلو منه!

ضحكت طالباتي، وقالت إحداهن بعد ضرب صدرها بقبضة يدها:

  • الكذب لعبتي!
  • لذلك حصلتي على 10 من 10 في الاختبار!
  • أستاذة!

وكانت الطالبة قد نسخت إجابة زميلتها كاملة بالحرف الواحد، والعبط الواحد! بطريقة جعلتني عاجزة عن وضع علامة صفر أمام غشّها السافر! ليس ضعفا! بل لأنّ للرحمة كلمتها الحاسمة أيضا! مما أشعرها بأنّي لم أنتبه لغشّها؛ فتمادت، ونسخت إحدى القصص القصيرة من بعض المواقع، وقالت لي:

  • إبداعي!

ثم جاءت زميلتها مقلّدة نبرتها الواثقة، ووضعت قصّتها على الطاولة، وقالت:

  • وهذا إبداعي!

وامتلأت طاولتي بعشرات القصص، من إبداعهن! أو نسخهن! أو خيالهن!

المهم أنّهن كُنّ يضعن القصص أمامي، ويمضين وفي داخلهن شعور بالزهو والفرح بممارسة الكتابة.

وعدتُ إلى المنزل حاملة ملفّا مليئا بالقصص، وفي المساء استعنتُ بنظارتي، ودلّة قهوة سوداء، وأغلقت الباب بالمفتاح رغم خواء المنزل؛ إلّا أنّ صوت المفتاح يوحي بأنّ العزلة حقيقية، ويجبر الأشباح على احترام الحدود، وعدم التسرب من تحت الباب!

واستفتحتُ بقصّة صاحبة شعار: "الكذب لعبتي"! وكان عنوان القصّة:

  • "معاناة شهرزاد"!

وتذكرتُ الكاتبة المجهولة "شهرزاد العصر" التي علق اسمها في ذاكرتي، وشتّان بين الشهرزادتين، فالأولى، كانت من تلك الفئة ذات البريق المُزَيف، لكنّه يظلّ بريقا يخطف القلوب والأفئدة، خاصّة الصورة التي وضعتها في "المُعَرّف" الخاص بها، فتاة جميلة بعيون ملونة، وشعر أشقر، ومكان فخم! عدا عن حركة الأصابع، التي لا تعرفها إلّا المدلّلات المرفّهات!!

أما "شهرزاد" الثانية، بطلة قصّة الطالبة، فهي فتاة يتيمة، فقيرة، بائسة، نكبها الزمن بوفاة والدها، ثم والدتها، لتعيش في منزل خالها، وعائلته الصغيرة، وبعد عام يموت خالها! لتزوجها زوجة خالها وهي صغيرة في العمر؛ حتى تتخلص من عبء الإنفاق عليها! ولم توضح الطالبة عمر شهرزاد عندما تزوجت! فالحكاية توحي بأنّها ما زالت طفلة صغيرة!

المهم أنّها قفزت إلى كون شهرزاد زوجة لرجل محب، طيب متسامح! ولذلك ببساطة تخلّصت منه! وكتبت:

  • وبعد عامين توفى زوجها!

 وربما لو كان قاسٍ لجعلته يعمّر حتى يتفنن في تعذيبها! لكنّه مات، بعد أن أنجبت العديد من الأولاد والبنات! في عامين!! في عامين فقط! وهنا صمتّ احتراما لرأس أمّ الفكرة! 

  • هذا إن كان للأفكار رأس وقدم!

لكن طالبتي قصمت ظهر القصّة حين أوجدت حلّا لشهرزاد لتخرجها من معاناتها حين قرّرت شراء بقرة، ولم نعرف قيمة البقرة، ولا من أحضرها لها، المهم أنّ البقرة كانت حاضرة وبقوة في قصّتها! واستطاعت شهرزاد بفطنة وذكاء أن تصنع سمنا، وتبيع نصفه، وتترك النصف الآخر من السمن؛ لإطعام أبنائها! وتمكنت خلال عام من بناء منزل جديد، وشراء مزرعة!

فكتبتُ تعليقي على قصّتها، وقرأت بقية القصص؛ لأتفاجأ بأنّ معظم الطالبات يتحدثن عن بطلة يتيمة بلا أب ولا أم ولا إخوة، ثم تتزوج ليموت الزوج! وتبدأ قصّة المعاناة!

 والقصّة الوحيدة البعيدة عن موت الأقارب، لم تخلُ من الموت أيضا! حيث كتبت إحداهن عن ضرب أخ لشقيقته، ثم أصيبت بالشلل بسبب الضرب، ثم ماتت!!

وفرغت من قراءة القصص، وفي داخلي كمّ كبير من نكهة الموت، والمقابر، والضرب، والصراخ، والاضطهاد! والدماء والأشلاء! والأبقار!

  • فعلا كانت أكثر من قصّة تتحدث عن البقرة المنقذة!

لذلك لم يرق تعليقي لمعظم الطالبات، وشرحت لكل طالبة وجهة نظري، فتقبلن النقد برحابة صدر، عدا طالبتي كاتبة قصّة "معاناة شهرزاد"، التي اكفهرّ وجهها، وقالت لي وهي في قمّة انفعالها:

  • لماذا كتبتِ على قصّتي (شهرزاد مقبرة- بقرة- سمن)!
  •  لأناقشك في هذه الأمور!

وأوضحت لها بأنّ الموت ليس حلّا لمعضلة، ولا السبب الوحيد للمعاناة! وبأنّ اسم شهرزاد لا يناسب البيئة التي تنتمي إليها البطلة، وبأنّ كثرة الموتى في القصّة يجبر القارئ على استحضار المقابر تلقائيا، فالموت يعني القبر:

  • فكم قبرا حفرتي في القصّة، وأنتِ لا تشعرين؟!

ثم سألتها بعد أن رأيتها تهتزّ أمام طاولتي غضبا:

  • هل لديكِ خلفية عن سعر البقرة؟ والسمن؟ وهل تنصحينني بترك التدريس، وشراء بقرة، وبيع نصف السمن؛ لأتمكن من بناء منزل جديد، وشراء سيارة، ومزرعة كبيرة خلال عام! وماذا لو بعته جميعه مرّة واحدة؟!

توقفت عن هزّ جسدها! وهدأت ملامحها! واستغلت زميلتها الفرصة لسؤالي عن رأيي في قصّتها، وطبعا زميلتها لم تكن أفضل حالا، حيث كتبت هي الأخرى عن فتاة ريفية يتيمة تقيم في منزل أقاربها، تتزوج ثم يموت زوجها، وتستعين على أعباء الحياة بشراء بقرة!

فابتسمت الطالبة الثانية خجلا، ووعدتني بأنْ تقرأ كثيرا حتى تمتلك اللغة، والخبرة الكافية، وتكتسب مهارة كتابة القصص القصيرة، بينما ظلّت الطالبة الأولى صامتة، ثم قالت بعد تفكير عميق:

  • أستاذة، ما رأيك أنْ أعيد كتابة القصّة مرّة ثانية! وأن يكون جميعهم أحياء!
  • والبقرة؟
  • ستظل في القصّة؟!
  • إذا احتفظي بالقصّة؛ حتى تتمرد البقرة، وتمسك القلم، وتقوم بتعديل القصّة!

(النهاية)

تعليق عبر الفيس بوك