اقرأ

 

أنيسة الهوتية

"اقرأ" أول رسالة إلهية وجهها ذو الجلال والإكرام إلى الحبيب المصطفى، وكانت بِداية نزول القراءن الكريم، وَكُلُ ديانةٍ نزل معها كِتابٌ يخصها يوصي بمكارمِ الأخلاق وصِلة الرحم والرحمة والإحسان والعبادة والتوحيد وعدم الانجراف وراء النفس وهواها فإنَّ النفس أمارةٌ بالسوء.

ولولا أهمية القراءة لما نزلت تِلك الكُتب على الأنبياء الكِرام عليهم الصلواتُ والسَلام. وَلو عَلِم الإنسانُ فوائد القِراءةِ وخَاصةً الورقية، لَما توجه إلى القراءة الإلكترونية كبديلٍ دائم ولا توجهت الأجيال الجديدة إلى التعلم عبر التطبيقات السمعية والبصرية والتي ستودي بمستقبل القراءة إلى الهلاك الأبدي.

كانَ المُثقفون الأقدمون يقرأونَ قبل النوم صفحاتٍ من روايةٍ أو قصة أو ديوانٍ شعري، والمتدينون يقرأون من الكُتب المقدسة، وفي كِلا الحالتين دون ذكر الحالة النفسية للقراءتين إلا أن الحالة الذهنية تكونُ في استرخاء تام، والفرق بين القراءة الورقية والقراءة الإلكترونية أن الثانية تتسبب بإجهاد المُخ والعينين بسبب الإشعاعات المختلفة التي تصدر منها مثل الأشعة الكهرومغناطيسية، والأشعة فوق البنفسجية، والأشعة تحت الحمراء والأشعة السينية والتي جميعها تقلل من إنتاج هرمون الميلاتونين والتي نقصها يؤدي إلى نقص في المناعة وإبطاء عمل الناشطات العصبية. والقراءة الورقية على عكس ذلك تمامًا تُحفز عمل الناشطات العصبية وتُفيد في التقليل من التوتر والاكتئاب والحزن وتساعد في توسيع مدارك الخيال وأيضًا تُقوي الذاكرة والقارئون الورقيون نادرًا ما يُصابون بالزهايمر.

فتأثير القراءة يأتي إيجابيًا على الصدغ الأيسر من الدماغ وهذه المنطقة ترتبط بشكل مباشر بالإحساس واللغة لدى الإنسان وبالتالي فإنه مُرتبطٌ بالتهذيب لذلك نرى الإنسان القارئ مُهذبا جِداً وليست لديه ردات فعلٍ قوية يمتص المواقف ويردُ بفكرٍ ووعي متكاملين، أما الكاتب فيكون مُتقدماً بخطواتٍ عنه.

أما عن قصص ما قبل النوم فإنها أجمل ما كانت سابقًا وللأسف هي عادة اندثرت واختفت في أيامنا الحالية، ومن فوائدها أنها تُعالج الاكتئاب والحزن ومختلف المشاعر البشرية السلبية بحيث تمتصها من عقل القارئ بإشغالهِ في أحداثٍ أخرى، وهذه الميزة ليست بذات الخُلاصة مع مشاهدة الأفلام! والقراءة الورقية الليلية تُساعد على النوم فهي تُخدر العقل والعينين، وتساعد في خلق العاطفة، وأيضاً تُحَسِن اللغة وتسمح بالإطلاع على مختلف العقول والأفكار والشخصيات والثقافات وهذا يعتمد على نوعية الكتاب المقروء.

فَمثلًا عندما يقول البعض إن كل ما قرأناهُ ودرسناهُ واختبرونا عليهِ في المدارس لم نستفد منه في الحياة العملية أو الخاصة! يكون القائل هذا غير مدرك للفوائد العظيمة التي كسبها عقله، ودماغه، أعصابه، وإتزان شخصيته، وفكره، من كل ما قرأه وإن لم يتعامل بها في حياته الخاصة والعملية! فالدراسة من الصف الأول الابتدائي إلى الثانوية العامة هي أساسيات تعليم مهمة جداً للارتكاز الحضاري وتنشيط لخلايا الدماغ والتي لربما ستفتقد لياقتها الفكرية ورشاقتها الذهنية إن لم تمر بكل تلك التمارين على مدى تلك السنوات! وتزداد تلك الرشاقة واللياقة بالدخول إلى مرحلة التعليم العالي بتخصص مُعين.

إذن المشكلة ليست في الدراسة بَل في تقدير المحتوى الدراسي وخاصةً عالمياً حين أصبحت الشهادة العلمية والأكاديمية هي الهدف من الدراسة وليس الارتقاء بالعلم، ولذلك نرى أشخاصاً حاصلين على شهادات علمية عُليا ولكنهم فارغون فكرياً مُتدنونَ ثقافياً وأخلاقياً، وأشخاصٌ في ارتقاءٍ فكري وأخلاقي وبمستوى ثقافي عالمي عالٍ دونَ حصولِهِم على تلك الشهادات! ولربما المُميزون الأخيرون غير مُكافئين مادياً في مقارِ عملهم لأنهم لا يمتلكون تلك الشهادات وقراءاتهم كانت خارج المنهج المعهود حتى وإن كانوا أكثر خبرة وثقافةً ورُقياً وصِدقاً وإخلاصاً وإنتاجاً في أعمالهم!

وإنهُم جَواهر وسيبقونَ جَواهر وإن لَم يُصقلوا.