لصوص الشهرة

 

إسحاق بن أحمد البلوشي

Isehaq26927m@gmail.com

 

رأيتُني جالسًا في مكتبي يومًا أمام شاشةِ الحاسوب الصغيرة؛ الشاشة التي لا أستطيع أن أوفّيها حقها، فقد أتت إليَّ بكل صغيرة وكبيرة ولم تبخل، ولا أستطيع أن أغفر لها ذنبها، فقد هيأت لي كل جميلة وقبيحة ولم تخجل، وكأنني في زاوية والعالم كله في زاوية، فتنقلت بين بلدانها وأوطانها دون جواز سفر، وتذوقت من قنواتها ومواقعها دون خوفٍ ووجل، فرأيتُ عجباً عجاباً وظننتُ أنني في عالمٍ هزلي، أصاب روحي وعقلي بشيءٍ من الخلل.

ثم تأملتُ طويلاً وأردتُ أن أجدَ شيئاً غير ذلك فلم أجد، وجعلتُ أقلب عينيَّ هنا وأرمي بأذنيَّ هناك، لعلي أرى في هذا العالم توازناً يعيد إلى روحي وعقلي رشدها لكنني لم أجد، فتذكرتُ حينها ما جاء بحديث أشرف الخلق وسيد الحق، محمد صلى الله عليه وسلم (بأبي هو وأمي) عندما قال "سيأتي على الناس زمان يُصدق فيه الكاذب، ويُكذب فيه الصادق، ويُؤتمن فيه الخائن، ويُخوَّن فيه الأمين، ويَنطق فيه الرويبضة، قيل وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة".

هنا ارتعدت فرائصي وأصابني الخوف وكاد أن يغشى عليَّ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم، فوليتُ هاربًا ولم أعقّبْ، ولم أجد ملجأً سوى أن أناجيَ القضاء وأتوسلُ القدر، ودعوتُ الله أن لا يكون ذلك هو زمانُنا، ولم أكد أنتهي من ذلك الخبر حتى سمعتُ لمقالي هذا أنيناً وصراخاً، فقد كلفتُه قولاً ثقيلاً ووكلتُه أمراً عظيما، ولو جازت له الشكوى لاشتكى، ولو استطاع المحاورة لقالَ وبكى، لكنه مع هذا وذاك جادَ بأسئلته آملاً أن يجد لها من الإجابات والتفسيرات ما يهدؤه، وما يشفي غليله مما أصاب الأمة من فواجع وما حلَّ بها من مواجع.

هل نعيش حقيقةً زمن التافهين والتافهات؟ وهل نحن صراحةً في زمن السخفِ والسخافات؟ لماذا كل هذا السباق المحموم والتنافس الشديد للشهرة والظهور؟ لماذا اختلت الموازين واختلطت المفاهيم في مجتمعاتنا وبين شبابنا؟ لماذا كل هذا التهافت على المواقع والحظور في المساحات التي لا يعرف رأسها من ذيلها، ولا يعرف صاحبها من ضيفها ولا يعرف من هو المحاوِر ومن المحاوَر؟ لماذا انتشرت هذه المواقع والمساحات انتشار النار في الهشيم؟ لماذا لا نجد حضورا فيها للعلماء والمفكرين، ولا نجد لها مضمونا يخاطب الأمة في صلاحها وصلاح أمرها؟ لماذا تميزت هذه المواقع ببساطة الفكر، وسذاجة المحتوى، وتفردت باستضافة من عنده من الاستعداد أن يقول كل شيء في كل شيء، وأن يدلي بدلوه فيما يشاء وكيفما يشاء؟

وهل داءُ النفوس إلا حب الشهرة والظهور، الذي تراءى في صورة الحسناء الجميلة فصاروا يتسابقون إليها سباق الحيوان، فهم لا يعرفون من أفعالهم شيئاً سوى منفعتَهم ولأن فيها منفعتُهم وحسب، ولا يدركون من معانيها شيئا سوى معناها في رغباتهم وأهوائهم فحسب، فأصبحت حاجتهم للشهرةِ والظهور، كحاجةِ الببغاء إلى التسلية واللعب.

وحسبك من كان الببغاء إمامه ودليله بماذا يهتدي؟ ولا أعتقد أن يبلغَ هؤلاء ما بلغه الببغاء من الذكاء والتعلم، فإن الببغاء له من الحكمةِ والفهامة أن يقلد الأصوات ويصرخ بها في أوقات التهديد والخطر موهماً المفترس بأنه أفعى، أما عبيد الشهرة والظهور فيصيحون بأصواتهم في كل وقت وحين دون تمييز وتفريق، والببغاء إذ يستحضر ما وهبه الله من صفات ومواهب فيما ينفعه وما يصلح شأن حياته، لا ينتفع عبيد الشهرة بما وهبهم الله من صفات وخصال، فأضروا وأساءوا الى أنفسهم والى أتباعهم من حيث لا يدرون ولا يحتسبون.

فالشهرةُ أصبحت مطلباً ولو على حساب الأسرةِ وسترِها، والشهرةُ أصبحت مقصداً ولو على حساب الدين وقيمه، فهي قوةٌ خارقةٌ تحطم كل شيء، ولها من الأشكال والأنواع ما يندى له الجبين، وتقشعر منه الأبدان، ولِعَبدتها طقوسٌ وأحوال.

من أجل الشهرة وجدَ الابن أباه في صورةٍ مخزية، ووجدت البنت أمها في صورةٍ مخلة، ومن أجل الظهور وجدَ الآباء والأمهات أبناءهم وبناتهم وقد مات شرفهم، وضاعت قيمهم وتسفلت أخلاقهم، ومن مشاهدها العظيمة أن تكون الزوجة وبنتها في أجمل زينةٍ وأحلى صورة، وتجد الزوجَ الأب يجري خلفهما يصور ابنته مرة وينادي بأعلى صوته هذي بنتي وهي زعلانة، ثم يصور زوجته مرة ويقول هذه زوجتي وهي فرحانة، ثم ينشر صورهم والمقاطع الحية لهم على المواقع والوسائل مفتخرًا ومتفاخرًا، تحت شعار (يوميات فلان وفلانة...).

 ومن عطايا الشهرة أيضاً أن يتشارك الزوجان في إنتاج مقطع ترويجي لمنتج ما، شريطة أن يكون في غرفة النوم، لتصلَ رسالة الترويج من أعماق العلاقة الزوجية الصادقة، ومن بين حنايا الحميمية الناعمة، ليصل المنتج الى أبعد مدى، فتتنوع الأساليب وتَتفننُ الزوجات في عرض المنتجات، ويَتفننُ الأزواج في التصفيق وتبادل القبلات، تحت شعار "تنويع مصادر الدخل".

ثم يأتي نوع آخر للشهرة أشدُ شراسةً من أخواتها، فيَتهِم الشاب نفسه بأنَّه المجرم، وتَتهِم الفتاة نفسها بأنها المجنيُّ عليها، ويقومان بالإعلان عن ذلك، فيشتهر الشاب، وتظهر الفتاة، ويشاع بأنهما أجرما مع سبق الإصرار والترصد، ولكن ليس في حق أحد بل في حق الإجرام، وسقطا سقطة ولكن ليس في يد أحد، بل بين يدي المروءة والفضيلة.

ومن إبداعات الشهرة أيضاً أن يصبحَ المعلم تلميذاً، ويصبحَ التلميذ معلماً وأستاذا، وتصبح الطبيبة عارضة أزياء، والأم "فاشينيستا" والزوجة "موديل"، ثم يُتوج كل هذا وذاك بأمر عظيم فيصبح إمامُ المسجد مُغنيًا ومطربًا، فتختلطَ بين أنامله الألحان، وتضطرب بين يديه الموسيقى، تحت تأثير الإعجاب والتصفيق من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون.

ثم تتقن أخرى تسريحتها وتتصبغ بألوان وألوان، لو وضعت على جدارٍ مَحت معالمه، وما عرف الجدار أهو جدار أم حمار!! ثم تصور قهوتها وتعلن أنها الآن هي في المقهى، وبعد دقائق ستكون في الملهى، وبعد ساعات ستذهب إلى المسبح، وبعدها إلى الحمام، ثم تستأذن كل من في الأرض جميعا، وتستأذن الحيوانات في الغابات والصحاري، وتستأذن الطيور في السماء والأسماك في البحار، بأن تشاركهم تفاصيل حياتها تحت شعار (شخصية عامة) وتعطي الوعود لهم بأن تفاصيل الغد أكثر إثارة من اليوم، وربما تكون بلباس النوم فلتكونوا في الموعد!

ومن غرائب الشهرة الحديثة أن تلزم صاحبها بأن يتملك قناة أو قناتين أو ربما أكثر على الإنترنت، أو حسابًا أو حسابين أو ربما أكثر، أو مساحة أو مساحات، بحسب ما أوتي من قوة في التعامل مع التفاهات، وصداقاته مع السخافات، فما يلبثُ هذا إلا أن يصبح عالماً ومفكراً وفيلسوفاً بين عشيةٍ وضحاها، يعرض في قنواته وحساباته من تفاهاته ما يشاء، ويناقشُ من القضايا العامة والخاصة ما يريدُ وما يشتهي.

لأن أساس الحياة لديهم هو الخضوع التام للشهرة، لتكون العقيدة الأقوى في تمجيد السفهاء، وتقديس الجهلاء، وانتهاك أعراض العلماء، ولتكون في أعلى درجات البر لتحليل الحرام، وتحريم الحلال، وتقديم القرابين واتهام الدين بما ليس فيه، ولا يكون ذلك طبعاً إلا باستضافة بعض المتحدثين الذين لهم مع الشهرة عقيدة راسخة وعلاقة وطيدة، لا يشوبها الإلحاد، ولو رأوها في طريقهم ما أظنهم إلا أن خروا لها سجداً وبكيا، فهي جنة الخلد في نظرهم، وهي الحياة الباقية في معتقدهم، رغم أنهم لا يعرفون من العلم شيئاً سوى كتابة أسمائهم!!

فيا عجباً للشهرة ماذا صنعت وماذا فعلت بهؤلاء، وكيف استطاعت أن توجه عقولهم وقلوبهم رغم اختلافها واختلاف مشاربها اتجاها واحدا لا يحيدون عنه وهو للشهرة فقط، وإذ أن أطماع النفس ورغباتها لا تنتهي، وشهواتها ونزواتها لا تنجلي، استطاعت الشهرة أن تخلق الفوضى بين هذه وتلك وجعلت الحيوانية المادية تطغى على إنسانيتهم، فلم تتعاون فيما بينها فخلقت إنسانا للشهرة ليس له نَسَق!!

ومتى ما تحكمت الحيوانية المادية على الإنسان، استحكم سلطانُ النفس عليها، فلا يرى الأشياء بمعانيها الطبيعية الحية، وإنما يراها بماديتها الناقصة، فيرى في المتوافقات متناقضات، ويرى في المتناقضات متوافقات، ويرى في الزائلِ بقاءً، ويرى في الفناء خلوداً، وتموت في نفسه كل خصالها وحقائقها، ويكون حيًا بالجسد وحده فيعيش حالة الاضطراب والخداع.

أيها الهاربُ وراءَ الشهرة هل فهمت معناها؟ وأيها الهاربُ وراء لقبِ "مشهور" هل عرفت شيئًا من شروره وعثراته وشؤمه، (مشهور) هل عرفت أن حروفها من بنات الأبجدية أو من غيرها؟ إن كانت من الأبجديةِ فلا تغترَّ ولا تعترّ، لأن الأبجدية تقسوا أحيانا فتجعلُ الميمَ في مجنونٍ ومنافق، والشينَ في شيطان، والهاء في هر، والواو في واهم، والراء في راقصة، فأيها تختار لنفسك أيها المشهور؟

ولكني أراها حروفاً تشكَّلت من وحي الماديةِ الغرائزية الملعونة، التي جعلت من الأغبياءِ عباقرةً وجعلت من الجاهل الأمي أديباً ومفكراً، ومن الذي لا يستطيع كتابة سطرٍ أو قراءة سطر دون خلل أو لَحَن شاعرا كبيرا، ومن الامعة الأبله مستشارًا خبيرًا، ومن الثرثار الجبان بطلاً مقدامًا والقائمة تطول وتطول ولا تكاد تنتهي.

لا أريد هنا أن أضع مقارنة بين الأولين الذين تربعوا على أمجاد التاريخ العظيم لأمتنا العربية وعلمائها وعباقرتها وأدبائها، الذين بلغوا عنان السماء ومتسع الفضاء، وأناروا بعلمهم الغرب قبل الشرق، وبين الآخِرين من مشاهير اليوم، أستغفر الله.. أستغفر الله من ذنب كهذا، أو فعل كهذا، فلا أرى في حياتي ذنباً أعظم من هذا أقترفه، فأين الثرى من الثريا، وأين الأسد من الهر؟!

لكننا في زمنٍ ينالُ فيه المرء ما يشتهي من الشهرةِ في ساعةٍ او دقيقة، أو ربما قبل أن يقومَ من مقامه، أو قبلَ أن يرتدَّ اليه طرفه، ليس بينه وبين الشهرة ونيلِ الألقاب والرتب، إلا ثوباً للصداقات مع أصحاب القنوات والمساحات يلبسه فيشتهر، ويخلعه فيندثر، أو أن يكون صاحب تسريحةٍ جذابة وابتسامةٍ مزورة يستخدمها لتشتيت الأنظار في أوقات الشدة وافتضاح الأفكار، أو أن يكتب كلمةً تافهة في صحيفة أو جريدة لو اجتمع أهل اللغة والبلاغة في فهمها وتصحيحها ما استطاعوا لذلك سبيلًا.

لا يرجو مقالي هذا في كلماته الأخيرة، وفي خاتمته المثقلة بالهموم والأوجاع التي أصابت الأمة من رجالها ونسائها، أن يزولَ من نفوسهم حبُ الشهوات وقبح الغرائز والمُلهيات، والتي تصدرتها الشهرة والظهور لأننا نعلم جميعاً أن مثل هذا الرجاء هو طلب المحال، وأن هذا التمني ضرب من الخيال، لكنني أدعو أصحابَ العقولِ والأفهام، أن يُمعنوا النظر ويتيقنوا الخبر في هؤلاء، ويخففوا شيئاً من وطأة هذه الألقاب والمُسميات، والتي أرى أنها توزع في ليلٍ حالك السواد، يغشاه سوادٌ من فوقه سواد، ومن تحته سواد، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، لتزول عن أذهان العوام هذه الصور العظيمة التي ظهروا عليها، وليُعرف الملَكُ الكريم من الشيطان الرجيم.

أنا قلمّا رأيت أحدًا يحتاج إلى الشهرة والظهور، إلا وهو لا يستحقها، وقلما رأيت أحدًا يستحقها إلا وهو ليس بحاجة إليها، فأين تجدون مكانكم أيها المشاهير؟!

تعليق عبر الفيس بوك