ملحمة جلجامش

 

أنيسة الهوتية

"جلجامش أين تهيم على وجهك

الحياة التي تنشدها لن تجدها

لم يسلك أحد الفانين هذا الطريق

ولن يفعل ما دامت الريح تهب على البحر"

قال إلهُ الشمس تلك الجُملُ لجلجامش حتى يتوقف عن البحث عن هدفه المجنون والذي هو "الخُلود" الأبدي، ومنع عناده الذي جعلهُ لا يستريح من مشقة وعناء السفر والترحال ولو لشهقة نفس، مُحاولاً إقناعهُ بالواقع الذي يرفضهُ جلجامش وهو أنهُ بشريٌ وبأن هذا العناء سوف يُقصرُ حياتهُ ولن يُطيلها وبأن ما يفعلهُ بنفسه سيرتدُ عليه عكسيًا، وبأنهُ عليه أن يعيش ويستمتع بحياته كباقي البشر.

ورغم نصائح الإله شمس للإنسان الملك "جلجامش"، إلا أن الآخر رفض كل تلك النصائح وأصر على أنهُ لابُد وأن تكون هُناك طريقة لتحويله من إنسانٍ فانٍ إلى إلهٍ أو نصف إلهٍ أو مخلوقٍ أسطوري خالد، فأجابهُ:

"أبعد ما مشيت وهمت على وجهي في البراري؟

أأضع رأسي في باطن الأرض

أنام السنين الآتية؟

لا دع عيني تصافحان الشمس، أعيش في النور

الظلمة تتراجع أمام النور المنتشر"

"ملحمة جلجامش" تُعدُ أول عمل أدبي مُتكامل أنتجهُ الإنسان، وقد بقيت حيَّة مُذ أن كان جلجامش ملكاً على أوراك سنة 2700 ق.م، وقد خرج في رحلته من أرض "أور" عاصمة السومريين إلى أن وصل إلى ديلمون أرض الخلود التي لا يوجد فيها مرض أو موت أو حزن. وديلمون هي أوال وهي البحرين والتي كانت تتصف كذلك بأرض الملوك، وكان القدماء يدفنون الملوك في تلك الجزيرة قناعةً منهم بأنَّ أرضها بوابة إلى عالم البرزخ الذي يفصل بين الأحياء والأموات، فبالتالي من حق أرواح المُلوك أن يكونوا قائمين على تلك البوابة.

ونرجعُ إلى رحلة ومعارك وملحمة "جلجامش" في البحث عن الخلود التي وجد عشبتها في أرض ديلمون، ولكن قبل وصوله إلى أور سَرقت منهُ أفعى أُنثى تلك العُشبة فما أصبح خالداً وبقي فانٍ كغيره، لكن قصتهُ ومعركتهُ ورحلتهُ بقيت خالدةً إلى يومنا هذا. وكُل من قرأ في تلك الملحمة بتركيزٍ وجد أنها تحمل رسالةً إلى الإنسان ونصائح تفيد بأنه عليه أن يقدر نفسه كإنسانٍ ويرضى بنفسه وما امتلكهُ دون السعي إلى المستحيل، وإن سعى فعليه أن يسعى بالمعقول.

أما عن الخُلود، فإنها كانت أمنية كل ملك وإنسانٍ ذي جبروتٍ وقوةٍ وسُلطة، وعندما يصل الإنسان إلى كل تلك الأمور ويتميز بها ينسى أنه ليس سوى إنسان فانٍ لهُ عمرٌ معين يعيشه على هذه الأرض، وينسى الإنسان أن الخُلود نقمة، إلّا إذا سخرهُ اللهُ وليًا في الأرض لخدمة عباده وخلقه، وذلك شأنٌ من شؤون الله التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، والخالدون يتواجدون في كُل الثقافات والديانات بأسماء وأساليب مُختلفة، إلا في الإسلام؛ فالخلود هو بقاء ذكر الإنسان بخيرٍ بعد مماته ويزدادُ خُلوداً مع زيادة الداعين له.

أما الشباب الدائم وإن اقتنع الإنسانُ بأنهُ غير خالدٍ وفانٍ، فقد تم اختراعهُ أخيرًا مع عمليات التجميل التي لو كان الملكُ جلجامش حيًا لفرح بها وسعد! ولكن من يعلم! لرُبما كانت موجودة سابقاً واختفت مع تلك الحضارات! فلا يصعبُ أمرٌ على شُعوبٍ كانت تُحنطُ المُوتى وتبني الأهرامات والمعلقات! وإني أحيانًا أُفكرُ بأن تلك الحضارات قد اختفت مع اختفائها، اختراعاتٌ كثيرة لم تخرج لنا.

أما سر الصحة والشباب ففي هذين الحديثين: "ما ملأ آدميٌ وعاءً شرًا من بطنه، حسبُ ابن آدم لُقيماتٍ يقمن صُلبه"، و"الإيمانُ أن تؤمن بالله وملائكته وكُتبه ورُسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى".