علي بن سالم كفيتان
لم أكن أعلم بأنَّ الأقلام تمرض حتى وجدت صاحبي يئن وتعتريه حمى لم يعهدها من قبل، حاولت أن أمنحه كل أنواع المهدئات لكنه لا زال متوعكاً ويمر بمرحلة صعبة، أجريت له فحص "كوفيد-19" وكل المتحورات الجديدة، وحمدت الله أنه لم يكن مصابًا بهذا الداء المشاكس، لكن الطبيب نصحني بأهمية "التباعد القلمي" بينه وبين أقرانه الآخرين، فحسب بعض المؤشرات تبين انتشار الفيروس بين معظم تلك الأقلام رغم أخذها للجرعتين وتطلعها للثالثة وربما الرابعة ولا أزال أرقد جنب هذا القلم فتارة أبلل رأسه الساخن بقطع القماش الباردة وتارة أمنحه مزيجاً من العسل والليمون ورغم كل محاولاتي بات يجنح للوحدة ويفضل الانغماس في الشرشف البيضاء ليتركني كمرافق حزين على فراق عزيز.
فلم تكد فرحتي تكتمل بشفائه من سقوطه في فنجان النادل وعودته للحديث مع الورق والتجوال برشاقة بين جنباتها البيضاء الناصعة حتى عاد للفراش مجدداً، فكم كان مؤلمًا أن تجد نفسك تكتب وتكتب وتكتب لتكتشف أن جل ما خطه القلم هو طلبات زبائن مقهى السعادة في مجمع تجاري فاره، تعلوه صخب الحياة المادية. هنا الجميع يلبس أفضل ما لديه ويتمنطق بساعات وهواتف ذكية باهظة الثمن ويطلبون قهوة لم تعتد على محماس آبائنا وأجدادنا، فقهوة اليوم محلاة ومنكهة، بينما قهوتهم مرة كمرارة الوقت، ومع ذلك يتجرعونها ليمنحوا أنفسهم مصل المرارة؛ لأنَّ السكر لا يدوم؛ بل يذوب مع أول جولة للمعلقة في الفنجان، وغالباً ما يقطع المذاق الجميل أطرافنا الواحد تلو الآخر حتى يسلمنا للقبر لذلك عندما سقط قلمي في المرة السابقة ولم يصب بكسور وخفَّ سريعاً انتابتني نشوة النزال القلمي مجدداً.
لا زال النادل يُلاحقني في كل زوايا القهوة، فعند الحضور أقدم له صورة في هاتفي المحمول تثبت أنني أخذت الجرعتين بعدها يمنحني قائمة الطعام والمشروبات، وقبل مُغادرتي يجلب لي فاتورته المسجاة في دفتر صغير يضعها بمنتهى الرقة والأدب على طرف الطاولة مع ابتسامة استجداء للإبقاء على بقية الفكة؛ ففي العادة لا أطلب مأكولاتهم، ولكنني أحلل جلستي معهم بكوب شاي أو قهوة لا أكون في حاجة إليه، ولكنها ضريبة الجلوس في مكان عام والاستمتاع بعودة حياة الصخب بعد عامين من الوحدة والخوف، ولا أتردد في استعارة قلم النادل الذي يضعه خلف أذنه وأطلب منه ورقة بيضاء أحدد فيها معالم مقالي القادم، ومن ثم أدسها في جيبي وأعيد القلم لصاحبه مع الإيجار داخل الدفتر الصغير مع نهاية كل جلسة في مقهى السعادة.
مرض قلمي الأخير أقعدني معه وحرمني من متعة التجوال، كما كنت أفعل، وفي كل يوم ابتهل إلى الله أن يعافيه من وعكته الصحية ونعود معاً لدروب الحياة؛ لنكمل بقية المشوار، في حين ينتابني شعور أنه ليس مريضاً وأن ما ألمّ به مجرد إرهاق من ملاحقة النادل، فقد يحتاج للراحة وأقول أحياناً "يمكن يتغلى علي"، مع ذلك أخذت وعداً على نفسي أن أقاطع مقهى السعادة وأتخلص من رهاب النادل الذي لا يكل ولا يمل من ملاحقة زبائن كوب القهوة مثلي وما يصيب صاحبنا بالاستغراب والدهشة هو عدم شربها فهي مجرد طقس للجلوس لا غير رغم شهيق وزفير الآلة وهي تقوم بولادته في كل يوم من تلك المكينة الفضية... كعادتي أقضم البسكوته اليتيمة وأترك القهوة التي لم أذقها قط.
كم اشتقت لأبي وتذكرت مكوثي إلى جانبه في ردهات المستشفيات، فرغم ألمه ومرضه كان يمنحني ابتسامة تنسيني خوفي عليه، وكعادته يطلب كوب شاي أحمر من الترمس القديم القادم من الريف، فبعد أن أرفع له السرير يستمتع بكوبه الدافئ، وهو يسرد لي أحاديث عميقة عن الحياة رغم كل آلامه ومراراتها وجميع المحطات التي مر بها. وفي لحظة شرود يقول لي: "أتعلم يا بني أنَّ المرض نعمة من الله، فهو يذكرك بأمور قد تنساها مع دوران عجلة الحياة السريعة؛ فالألم يعمق الإحساس بقيمة العافية ويُقربك من الله".
لا أدري كيف ربطت مرض قلمي بفقدان أبي، ربما أصبح ذلك متلازمة أدبية جديدة يُراد لها أن ترى النور قريباً.
أدعو الله أن يتعافى قلمي وأن يرحم أبي..... وحفظ الله بلادي.