صناعة التفاهة!

 

مدرين المكتومية

"نظام التفاهة" عنوان كتاب للكاتب الكندي ألان دونو أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبيك بكندا، يُوضح من خلاله بعض الجوانب التي قد يغفل عنها الكثير من رواد التواصل الاجتماعي أو من يطلق عليهم "المؤثرون"، لا يدري هؤلاء أنهم يعيشون تحت سطوة لعبة سيئة تلعبها مواقع التواصل الاجتماعي لجذب أكبر عدد من المشاهدات والمستخدمين..

تلك التفاهة التي يقوم بها بعض من رواد هذه المواقع على أنها تزيد من شهرتهم وترفع عائدهم المادي ما هي إلا قذارة من إدارة هذه الحسابات، التي لا تهتم بالفرد ولا تهتم بما سيترتب على ما يتم بثه من محتوى، فتجد تلك المواقع تسعى لنشر أي محتوى فاضح أو منحط لأجل الحصول على متابعات و"لايكات" وحسب!!

المشكلة لا تكمن فقط في رفع رصيد شركات تلك الحسابات وإنما أيضًا في الحالة النرجسية التي يعيشها العديد من هؤلاء التافهين، فهي بكل بساطة لعبة اقتصادية، هدفها جني أكبر قدر من المال، وبالتالي سنجد في كل فترة زمنية ظهور عدد من البرامج الجديدة وتطوير في العدد الآخر للتنافسية التي يتطلب هذا السوق، وبالتالي لا يهم تلك الإدارات المحتوى الجيِّد بقدر اهتمامها بالمحتوى الذي سيُحقق لها عائداً مادياً، لذلك لا علينا أن ننبهر كثيرا بكمية المتابعات التي قد نراها على حسابات الأشخاص، خاصة إن كانت تلك الحسابات لا تضيف شيئاً، وأصحابه يعملون بنظام "الطلب" أي أنهم مجرد "روبوتات" يقومون بتنفيذ ما يملى عليهم مقابل حفنة من الأوراق المالية، صحيح أنه لا يمكننا نكران أنهم استطاعوا الدخول للسوق بقوة ولكننا نحن من ساهمنا في ذلك بالتأكيد.

ليس هذا فقط، فهؤلاء الذين يمكن تصنيف ما يقدمونه من محتوى على أنه "تافه" هم أنفسهم بائسون لأنهم لا يدركون حجم اللعبة الكبيرة التي وقعوا بها، وأخذتهم الشهرة وحب الظهور للذهاب بعيدًا، فهم لا يدركون أن كل ما يخرج على شكل "فضيحة" أو محتوى مدمر للمجتمع ما هو إلا وسيلة لإدارة بعض الحسابات لتقديم معلومات عن مجتمع وبلد بعينه، وبيعه وتسريبه لآخرين يهتمون بذلك. وفي هذا السياق أذكر فضيحة شركة "فيسبوك" الأخيرة، بعدما قامت واحدة من كبار المسؤولين في الشركة بتسريب وثائق ومعلومات سرية، الأمر الذي كشف وضع هذه المواقع التي لا تهتم أبدًا بمرتاديها بقدر اهتمامها بالمال الذي ستجنيه من وراء انتشار مقطع أو منشور "بوست" قد يساهم في رفع أرصدتها البنكية، من خلال ارتفاع عدد المشاهدات التي تعمل هي بدورها على إعادة نشره بصورة متواصلة.

وعند الحديث عن صناعة التفاهة، علينا أولا أن نعترف أننا جميعاً اضطررنا لمرة أن نتابع مشهوراً بعينه كوننا سمعنا عنه الكثير، ولكن بمجرد ما نقلب في حسابه نشعر بالاشمئزاز وربما بالخجل كونه ينتمي لمجتمعنا، خاصة إن كان ما يُقدمه هو مجرد محتوى تافه، ومحتوى لا يستفيد منه المجتمع.. إن هؤلاء الأشخاص يصنعون شهرتهم بطرق وضيعة للغاية، وبالتالي يضيع المتابع بين ما الذي عليه فعله وما الذي يجب عليه تركه. هذا الأمر ساهم في ظهور أشخاص لا ثقافة لهم، ولا مبادئ ولا أي محتوى حقيقي يقدمونه لمتابعيهم، لكنهم أيضًا صنعوا من الحقيقة خدعة ومن الخدعة حقيقة؛ لأنهم وبشكل ما لا ينظرون للأشياء إلا من منظور مالي بحت؛ أي أنهم لا يفكرون إن كانت الطريقة لائقة أم لا، وربما يروجون لمنتج رديء على أنه صحيّ ومناسب الأمر الذي يسبب الأذى والخلط على المتابع.

لقد استطاعت هذه المواقع أن تفضح تناقضات الكثير من المجتمعات، ولكن أيضاً أي مجتمع في حقيقة الأمر يعيش تناقضاً، لأن كل فرد في هذه الحياة له رغباته وتطلعاته وشعوره أيضا بأنه يعيش تحت التناقضات التي لا يمكنه أن ينكرها، والتناقض أمر صحي ولكن عندما يصل الأمر للأفكار وترسيخ فكر سيئ بدافع أن الشخص المشهور أكثر إدراكا وفهما من غيره هنا تكمن المشكلة، وأكبر من ذلك كله عندما يعيش المشهور نفسه خدعة الشهرة على أمل أنه يقدم ما لا يقدمه غيره دون أن يدرك أن وجوده وشهرته قام بها أيضًا إدارة الحساب لأنها تجني مما ينشره مبالغ مالية، خاصة إن كان بلا محتوى جيد.