استمعوا لهم

 

د. صالح الفهدي

قال لي وزيرٌ سابقٌ: "لقد استفدتُ من مقالٍ لكَ تدعو فيه إلى الاستماعِ إلى صغارِ الموظفين في الوزارة، فخصَّصتُ كلَّ يومِ ثلاثاءٍ ألتقي فيه بموظفٍ من إحدى الولايات"، فمما لا شكَّ عندي بأنَّ الاستماع هو الطريقةُ المُثلى للإحاطةِ بدقائقِ الأُمور، وتقارب وجهات النظر، وهو ما يتوجَّبُ على كل مسؤولٍ أن يقومَ به، ما يعني أنه لا يجب أن يقصِرَ الاستماع على دائرةٍ ضيِّقةٍ ممن يُعدُّون هم قنواته لفهم الواقع، فلا يسمعُ إلى غيرهم من أصحابِ الشأن.

لقد كانَ لهذا الأمر- أي الإقتصار على الدائرةِ الضيِّقةِ- آثاره السلبية في كثيرٍ من الأحيانِ؛ لأنها تُخفي جوانبَ أُخرى من الصورةِ الكبيرة التي يفترضُ الإلمامُ بها، ولا تأتي من جانبٍ معيَّنٍ وإنما لها جوانبها ومحاورها التي يشكِّلُ كل جزءٍ فيها وجهاً معيَّناً، وعندما تكتمل الصورة، تتضِّحُ الفكرةُ والأبعاد، وعندها يمكنُ اتخاذ القرار السديد.

يحكي أحد الإيطاليين ويُدعى إرنستو سيرولي  Ernesto Sirolli في حديثه إلى "تيد TED" قائلاً: "قررنا نحن الإيطاليون أن نعلّم أهل زامبيا كيفية إنتاج المحاصيل الزراعية، وصلنا هناك مُحمَّلين ببذور إيطالية إلى جنوب زامبيا، إلى ذلك الوادي الرائع المؤدي إلى نهر زامبيزي، وعلّمنا السكان المحليين كيفية زراعة الطماطم الإيطالية والكوسة وغيرها، وبالطبع لم يكن للسكان المحليين أدنى اهتمام بذلك لذلك وجب علينا أن ندفع لهم أجوراً حتى يأتوا، ويعملوا، وفعلاً كانوا يأتون. وكنّا نستغرب لأمر السكان المحليين، الذين لا يزرعون في مثل هذا الوادي الخصب. لكن بدلا من أن نسألهم عن السبب الكامن وراء ذلك، قلنا لهم ببساطة "اشكروا الله على مجيئنا في الوقت المناسب تماماً لإنقاذ الشعب الزامبي من الموت جوعًا"، وبالطبع نمت محاصيل الطماطم، وكان الأمر مذهلاً؛ حيث كنا نقول للزامبيين: "أنظروا ما أسهل الفلاحة!". فلمَّا نضجت الطماطم واحمرّ لونها خرج من النهر قرابة مئتي فرس بحر، دون سابق إنذار، والتهمت كل شئ! فقلنا للزامبيين، "يا إلهي، أفراس النهر!" حينها أجاب الزامبيون، "نعم، ولهذا السبب لا توجد زراعة في هذه المنطقة." قلنا لهم: "ولكن لما لم تخبرونا من قبل؟" فقالوا: "لأنكم لم تسألوننا عن ذلك".

لهذا استخلص درسه من هذا الموقف وهو الإستماعُ والإصغاءُ للآخرين وليس الفرضُ والإملاءُ عليهم فيما هو أفضلُ لهم..! محذراً من الإجتماعات العامة التي تهدفُ إلى الاستماع إلى آراء الآخرين لسببٍ وجيهٍ في رأيه وهو أن "أذكى الأشخاص في مجتمعك لا تعرفهم، لأنهم لا يحضرون اجتماعاتك العامة"..!

لا أحد يمكنهُ أن يستغني عن الاستماع خاصةً إِن كان ممن ولِّيَ أمراً من أمور الناس فهو أحوجهم إلى الاستماع كي يعي ماذا يفعل، والكيفية التي يديرُ بها الأمر؛ فالخطأ كل الخطأ أن يغشاهُ وهمُ الشُّعورِ بأنهُ ما وضعَ في هذه المرتبة إلا لأنه أذكى الناس، وأحكمهم رأياً، وأثقبهم بصيرةً ونظراً، وهذا في الحقيقةِ فخٌّ ينصبه لنفسه ليس غير ذلك..! وإذا كان النبي عليه أفضل الصلاة والسلام كان يرهف السمع لأصحابه وهو الذي "لا ينطق عن الهوى"، وهو الذي يأتيه الوحي من السماء بالخبر، فما بالنا بغيره؟!

إنني أُقدِّرُ كلَّ مسؤولٍ لا يستغني عن الإِستماع إلى عقول مختلفة، وآراءٍ متباينةٍ، وأفكار متنوعةٍ خارج الدائرة الضيقة التي قد تنظر للأمور من زوايا معينة يشوبها القصور، مسؤولٌ لا يترفَّع عن سماع رأيٍ مخالفٍ بل يسعى للإستماع إلى صاحبه، وتلك في نظري فضيلةُ التطويرِ، وميزةُ الإصلاح.

مسؤولٌ يضعُ مصلحة الوطن فوق كلِّ اعتبارٍ بغضِّ النظر ممن يأتي الرأي فقد يكون في ذلك الرأي مصلحةً متحققةً للوطن.

مسؤولٌ يفرِّقُ بين الرأي الموضوعي وبين صاحبه، فلا يشخصن ولا يضع صاحبُ الرأي في قائمةِ المغضوب عليهم، وقائمة المهمَّشين، المقصيين.

مسؤولٌ يستمع إلى رأي الجميع دون تفرقةٍ فلا يحملهُ كبريائه إلى تحويلِ الاجتماعات إلى منابرَ شخصيَّة لا يتحدَّثُ فيها غيره..!

خلاصة القول.. إن استماع المسؤول لموظفيه، واستماعه للناس هو أمرٌ لا مناصَ منه من أجل تكوين قاعدة تلتقي فيها الآراء، وتحدَّد فيها وجهات النظر المختلفة، والآراء المتعارضة، وعلى ذلك تتشكَّل الصورة الكاملة، وتُبنى القرارات الفاعلة.

الإستماعُ الحصيف هو أوَّل أداةٍ لصنعِ رؤيةٍ واعية، وتصحيح مسارٍ مستقبلي، لأنه ينطلقُ من خليطٍ من الأفكار، ومزيجٍ من الرؤى.. وهذه هي دعوتي لكلِّ مسؤول: استمع بتواضع لموظفيك لتعلم منهم ما يرونه في شأنِ تحسين الأداء، وتطوير المؤسسة، واستمع للناس عامَّةً في المجالات التي تُعنى بها لتلمَّ بما يحدثُ في الواقع، وتعرفَ بما يفكر الناس، حتى يمكنك أن تضعَ القرار في مساره الصحيح.