الرأسمالية و"مجتمع الفرجة"

علي الرئيسي

باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية

"ليست الفرجة مجرد نتاج لتقنيات التعميم الواسع للصور فحسب؛ بل هي رؤية فعلية للعالم". جي ديبور.

كتاب مجتمع الفرجة أو الاستعراض صدر عام 1976 من قبل الفيلسوف الفرنسي الراديكالي جي ديبور (Debord Guy)، إلا أنها شهادة واقعية للمجتمع الحديث في عصرنا الحالي الذي تهيمن فيه الصور والفيديوهات في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي. الكتاب في الحقيقة صحيفة اتهام لمجتمعنا الاستهلاكي المهيمن عليه من قبل الدعاية الرأسمالية. وهذا ليس حكرًا على مجتمع بعينه وإنما حالة سائدة في كل المجتمعات المعولمة.

الرأسمالية إلى حد ما وفرت للإنسان أو لمعظم الناس وسائل البقاء، ولكنها في ذات الوقت، ونتيجة لاحتياجها لأسواق جديدة ولبيع منتجات غير ضرورية، ولأجل انتشارها واتساع نطاق الربح فقد خلقت احتياجات غير ضرورية للناس، وحولتها عن طريق الفرجة إلى ضرورة حياتية الهدف من اقتنائها هو الصورة التي نظهر فيها للآخرين.

يقول ديبور إن في المجتمعات التي تسودها عناصر الإنتاج الحديثة. الحياة تعرض نفسها على أساس تراكم للفرجة، أو الاستعراض. إن الفرد في مجتمع الفرجة يعيش حسب صورته لدى الآخرين لا وفق ما عليه، أما الصورة المصدرة عنه فيجري إعدادها أو إخراجها بحيث تبدو كأنها أصيلة وغير مفبركة. إن العلاقات الاجتماعية الحالية بين الناس تتوسط فيها الصورة. وحتى الأسس التي تربط هذه العلاقات قد تحولت أو استبدلت إلى تمثل (Representation). يكتب ديبور" الفرجة هي جوهر اللاواقعية في واقع المجتمع".

إن الفرجة هي نظام استبدادي لاقتصاد السوق، وإن وسائل الإعلام الجماهيري هي الأداة لهذا الاستبداد. وعوضا عن الكلام عن الفرجة، فالناس تفضل اتهام الإعلام وبهذا فهم يقصدون الأداة، أي نوع من الخدمة العامة. والاستعراض أو الفرجة ليس سوى أداة للرأسمالية لتحييد وتشتيت انتباه الناس، ففي مجتمع الفرجة الكل متفرج وليس فاعلا.

الفرجة اليوم تأخذ أبعادًا مختلفة، يمكن أن توجد في شتى مناحي الحياة، توجد في كل شاشة تظهر لنا، في الإعلانات الملصقة، وفي تلك التي تظهر لنا على شاشات الموبايل أو شاشات الكمبيوتر، في المذياع الذي يُردد على مسامعنا عن ما يجب أن نعرفه عن سلعة مُعينة. الاستعراض يختزل الواقع في مجموعة لامتناهية من السلع. إنها تسليع للحياة ولأنشطة الإنسان واهتماماته.

يربط ديبور بين مجتمع الفرجة والاقتصاد؛ حيث يربط بين "فتشية" السلعة وقضية الاستلاب والاغتراب؛ حيث يقول إن الفرجة ليست مجموعة صور متداولة بين الناس فحسب، وإنما هي تعبير عن علاقات اجتماعية، تتم عبر بث متواصل للصور، وبالتالي الاستعراض يغير بشكل جدي تفاعل الإنسان مع محيطه وعلاقاته. والصور تؤثر على حيواتنا وعلى معتقداتنا بشكل يومي، الإعلانات تخلق لنا طموحا ورغبات جديدة، ووسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي تترجم وتختزل لنا الحياة بسرديات بسيطة وساذجة، وهذا يعني أنك في أكثر الأحيان تقرأ أو تسمع ما لا ينطبق على شخص الكاتب أو المتكلم؛ لأننا نعيش عالم أقنعة ليس إلا!

الفيلسوف الألماني فيورباخ الذي توفي سنة 1872؛ أي قبل ولادة ديبور بمائة عام تقريبا، ذكر في مقدمة كتابه ذائع الصيت "من جوهر المسيحية" ما نصه: "ولا شك أن عصرنا يمثل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التمثيل على الواقع، المظهر على الوجود... ما هو مقدس بالنسبة له سوى الوهم، أما ما هو مدنس فهو الحقيقة".

ومن ظواهر مجتمعات الفرجة لدينا أيام الانتخابات مثلا؛ إذ لا ترى سوى صور المترشحين مُعلّقة دون معرفة برنامجهم الانتخابي؛ أي أنهم أصبحوا مادة للفرجة، وطبعاً لا نريد أن نذكركم بسيل صور "المشاهير والنجوم" في الانستاجرام؛ فالكل للفرجة والاستعراض. وحتى الألقاب العلمية وغيرها من ألقاب أضحت مادة للفرجة ولا تعكس إنتاجا معرفيا أو مهنيا أو مستوى اجتماعي. إن الفرجة أصبحت جزءا أساسيا من عملية مجتمعية وليست مقصورة على فئة معينة فهي عملية اجتماعية تسود كل فئات المجتمع.

لم يكن كتاب "مجتمع الفرجة" توصيفا للرأسمالية في طورها المتأخر فحسب؛ بل دعوة للتمرد على تسليع الإنسان وتشييئه؛ فهو يدعو الإنسان إلى الانخراط بالكامل في حياته حسب قناعاته، وأن لا يبقى سجيناً لمجتمع الفرجة.. أن يكون فاعلا اجتماعياً وهذا ما مارسه ديبور في حياته لدرجة أنه اختار نهايته بنفسه.