الذكاء الاصطناعي والحاجة إلى "تخصصات النُدرة"

 

د. يحيى بن ربيع النهدي

رئيس الدراسات الإدارية والمالية- كلية الزهراء للبنات

 

ظهرت مُؤخرًا نتائج فرز مركز القبول الموحد، وتَحدّد المسار التعليمي القادم لخريجي وخريجات الدبلوم العام لهذا العام الدراسي، إلا أنَّ وصول الطالب إلى مُبتغاه في مشواره التعليمي لا يعني بالضرورة أنَّه قد سار في الطريق الصحيح ما لم يكن ما سوف يدرسه منطوياً تحت ما يُسمى بـ" تخصصات النُدرة".

فبعض الخيارات وإن كانت حسب رغبة الطالب فهي إلى حد بعيد لا تسعفه بعد التخرج للحصول على فرصة عمل كون ما درسه قد تشبّع السوق منه أو أنه من التخصصات التي لن يكون لها حاجة في السنوات القادمة التي سوف تختفي بوجود الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي. وبالتالي أصبح على الطالب البحث عن تخصصات النُدرة قبل انخراطه في أيٍّ من التخصصات حتى وإن كان ذلك يخالف ما يطمح إليه، فالعبرة أصبحت ليس في الشهادة وإنما في التخصص، وفي اعتقادي فإنَّ العبارة المشهورة "الشهادة هي سلاح" لن يكون لها حاجة عاجلا أو آجلا ويجب أن تتغير لتصبح "التخصص هو سلاح".

نحن الآن في خِضم الثورة الصناعية الرابعة، هذه الثورة التي سوف تقضي على كثيرٍ من الوظائف في سوق العمل، وبالتالي فإنَّ ما سوف يُدرّس الآن من تخصصات في مؤسسات التعليم العالي لن يكون له حاجة في السنوات القريبة القادمة، فبِالأتمتة سوف يُستغنى عن البشر في أداء كثيرٍ من الوظائف. وقد أشار التقرير الصادر عن القمة العالمية للحكومات لعام 2018 أنه يمكن أتمتة 45% من الأنشطة الموجودة في سوق العمل الخليجي. وبحسب التقرير نفسه، فإنَّ قطاعات مثل التصنيع والنقل والتخزين وتقنية المعلومات هي أكثر القطاعات القابلة إلى الأتمتة. وإن كان هناك وجه مشرق لهذه الثورة بظهور وظائف جديدة تفوق ما سوف يفقد من وظائف، إلا أنَّ جُلها تتطلب مهارات "كمبيوتراتية" (حاسوبية) عالية.

الدكتورة بثينة الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية أشارت في مقال لها بعنوان "مستقبل الوظائف في ظل الرقمنة والذكاء الاصطناعي"، إلى الإحصائية الواردة في التقرير الذي أعدته شركتا «سي بي آر إي» و«جنيساس» الصينية بعنوان "إلى الأمام سريعا 2030: مستقبل العمل وأماكن العمل" جاء في هذه الإحصائية أنَّ "50% من المهن الموجودة اليوم سوف تختفي تمامًا بحلول عام 2030 ولكن 65% من وظائف المستقبل لم تظهر بعد؛ أي أن هناك 15% زيادة على عدد الوظائف، حيث سيتحول الناس إلى امتهان المهن الأكثر إبداعًا وإنتاجية".

نستطيع القول إنَّ التحول الرقمي السريع الذي يعيشه العالم اليوم يتطلب نقلة نوعية فيما يُقدّم من تخصصات من قِبل مُؤسسات التعليم العالي باستحداث تخصصات جديدة تُواكب ما يتطلبه الذكاء الاصطناعي من مهارات.

وهنا أود أن أستعرض بعض المقترحات التي قد تساعد مؤسسات التعليم العالي في تقديم تخصصات توائم ما يتطلبه مستقبل سوق العمل من مهارات، وأول هذه المقترحات تتعلق بالابتعاث من خريجي الدبلوم العام للدراسة في مؤسسات تعليمية إقليمية ودولية، وبما أن البعثات الحكومية قد قُلِصت خلال السنوات الأخيرة، أرى أن يتم تخصيصها إلى الطلبة المتفوقين والحاصلين على نسب تفوق 95% دون الرجوع إلى مركز القبول الموحد، على أن توجَّه هذه البعثات نحو تخصصات نادرة وغير متوفرة في المؤسسات التعليمية المحلية ومرتبطة بالمهارات التي يتطلبها الذكاء الاصطناعي.

هذه المهارات حصرها الأستاذ الدكتور أحمد حسين الصغير في دراسة بعنوان "الجامعات المصرية وتحقيق متطلبات وظائف المستقبل في ضوء الثورة الصناعية الرابعة" في الآتي: "علم الروبوتات، إنترنت الأشياء، الطب الجينوجي، البيانات الضخمة، الطائرات بدون طيار، الطباعة ثلاثية الأبعاد، النقل ذاتي القيادة، ومعلم المستقبل". والإسراع في هذا التوجه سوف يُساهم في تأمين جيل مُهيأ للعمل في وظائف المستقبل، والعكس صحيح، فإن لم نبدأ من الآن فسوف نجد السوق في حاجة إلى عمالة وافدة تقوم بهذه المهمة وسيستمر سيناريو الاعتماد على العمالة الوافدة وستهيمن هذه العمالة على الوظائف المفصلية لقطاع العمل في السلطنة.

كذلك من الرُؤى التي أجدها في نظري مُهمّة لمواءمة مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل المستقبلي هي توجيه مؤسسات التعليم العالي للبدء في تقديم تخصصات المستقبل. ويبدأ هذا التحول بطريقة تدريجية، بحيث تُعطى هذه المؤسسات مدة لا تقل عن 5 سنوات للوصول إلى نسبة لا تقل عن 30% من التخصصات الجديدة المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة، وخلال هذه المدة تكون مؤسسات التعليم العالي معفيّة من أيّة التزامات أخرى تفرضها الجهات المسؤولة عن متابعة عمل التعليم العالي في السلطنة كوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار وهيئة الاعتماد الأكاديمي.

ويوازي هذه الخطوة، إعطاء مرونة أكبر للكليات فيما يخص ارتباطها بجامعات أو مؤسسات تعليمية إقليمية أو دولية تتيح لها تغيير برامجها الأكاديمية الحالية ببرامج أكثر مواءمة لحاجات سوق العمل المُستقبلية، فحاليًا جهات الارتباط في نظري هي عقبة تُكبِل حريات كليات التعليم العالي الخاصة في تسيير عملها الأكاديمي؛ حيث إن برامج هذه الكليات مرتبطة ارتباطاً كاملاً بتلك التي تقدمها جهات الارتباط ولا يُمكن تغييرها إلا بمشورة هذه الأخيرة.

الأمر الآخر، يمكن لهذا الارتباط أن يُؤثر على جودة التعليم وذلك لأن الكليات الخاصة تدفع مبالغ كبيرة لجهات الارتباط، ولتخفيف العبء المالي، تسعى كثيرٌ منها إلى تقليل التكلفة بالبحث عن مؤسسات ارتباط إقليمية أو عالمية ليست من المؤسسات الأكاديمية ذات التصنيف العالمي، الذي سوف يؤثر كثيراً على جودة البرامج التعليمية المقدمة في الكليات الخاصة.

وفيما يخص التوجُّه إلى مهارات المُستقبل، أرى أن الارتباط الأكاديمي في بعض الأحايين لا يخدم هذا التوجه، وذلك لأن بعض جهات الارتباط لا تهتم كثيراً بالغزو التقني الحالي لأنَّ التحول الرقمي في حكومات البلد الأم لهذه المؤسسات ليس في أولويات أجنداتها، خلافاً لما هو حاصل الآن في السلطنة من اهتمام كبير بالتحول الرقمي الذي ترجمه مجلس الوزراء الموقر في قراره الأخير باعتماد البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي والذي تكوّن من مرتكزات لها علاقة مباشرة بالذكاء الاصطناعي وكيفية تسخير مزاياه في التحول الرقمي للاقتصاد العُماني. ومن هذه المرتكزات صناعة الأمن السيبراني واستخدام تقنيات الثورة الصناعية الرابعة في تمكين القطاعات الاقتصادية، وهنا جاءت الحاجة ماسة لمواءمة متطلبات هذا البرنامج وما يقدم من تخصصات أكاديمية في مؤسسات التعليم العالي بالسلطنة.

وإجمالًا.. فإنَّ مواءمة المسارات الأكاديمية مع ما يمليه المستقبل الرقمي من واقع أصبح أمراً لا مناص منه، ومن لا يلحق الركب سوف لا يجد له مكاناً في عالم الأتمتة والذكاء الاصطناعي، فنحنُ نعلم أنَّ بلدانًا كثيرة خصصت مؤسسات مستقلة تُعنى باستشراف المستقبل وما هو مطلوب للبقاء في هذا العالم السريع التغير.

تعليق عبر الفيس بوك