الماء.. ما خفي أعظم!

 

أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي **

 

لا شك أن أكثر السوائل التي نتعامل معها في حياتنا هو الماء، فهو السائل الذي يشكل ما بين 50 الى 70% من أجسامنا ويشكل حوالي 75% من سطح كرتنا الأرضية.

ولشدة أهميته في حياتنا اليومية، فلقد اعتقد الإنسان أن الماء مكون أساسي داخل تكوين المواد وظن أنه المادة الأساسية التي لا يمكن أن تنقسم وتتكون من مواد أصغر منها، لكن عندما أدرك الإنسان أهمية التجربة وقدرتها في تطوير العلم والمعرفة انكشف له جهله، فلقد تبين له أن الماء مركب وليس مادة بسيطة فهو يتركب من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين.

ومع تطور العلوم الطبيعية وإخضاع الماء للتجارب العلمية الدقيقة اكتشفنا أننا كنا نجهل الماء على الرغم من تعاملنا المستمر معه، فمثلا اعتاد الانسان أن يرى الماء وهو في حالة غليان عند مائة درجة مئوية، ولذا ثبت في أذهاننا أن من صفات الماء غليانه عند هذه الدرجة المئوية، ولكن الواقع أن ذلك غير صحيح بإطلاقه، فدرجة غليان الماء تعتمد على عامل خارجي وهو الضغط الجوي، فلا توجد درجة ثابتة أو مرجعية لغليان الماء، فهو يغلي عند 100 درجة عندما يكون الضغط الجوي 760 تور (التور وحدة من وحدات قياس الضغط)، وهذا الضغط هو الضغط المقارب لأغلب المناطق المأهولة التي يعيش بها الإنسان، فأغلب الوديان والسهول والتلال لا يختلف فيها الضغط الجوي كثيرا عن 760 تور، ولذا تظل درجة غليان الماء تقارب 100 درجة مئوية، ولكن درجة غليان الماء تنخفض بصورة كبيرة جدًا في قمم الجبال الشاهقة مثل قمة إيفرست في الهيمالايا، والسبب في ذلك هو تغير الظرف الخارجي؛ إذ إن عُلو هذا الجبل يؤثر في درجة غليان الماء في تلك القمة لتصبح 70 درجة مئوية فقط، ولذا فإذا كنت ممن تعشق شرب المشروبات الساخنة، فانتبه اذا عزمت أن تتسلق قمة إيفرست، فعلى الرغم من برودة الجو هناك، فستحرم من الاستمتاع بمشروب ساخن، فمشروبك سيتبخر قرب 70 درجة مئوية فقط!

إن درجة غليان الماء الطبيعية عند قاطني الجبال الشاهقة تختلف تمامًا عن درجة الغليان التي نعرفها، ولذا عندما نقول إن من صفات الماء أنه يغلي عند 100 درجة مئوية فإننا نتحدث عن ذلك ضمن ظروف خارجية معنية؛ حيث الضغط يعادل 760 تور، فدرجة الغليان هذه ليست صفة ثابتة فيه؛ بل تتغير بتغير الظروف الخارجية.

والأمر ذاته ينطبق على درجة تجمد الماء،فإن الادعاء بأن الماء يتجمد عند صفر درجة مئوية بشكل مطلق غير صحيح أيضًا، فالماء يكون بخارًا في درجة حرارة دون الصفر عندما يكون الضغط الجوي في حدود 2 تور!!

بل إننا نظن ونظرا لخبرتنا اليومية أن الماء لا بُد وأن يتواجد في إحدى الحالات الثلاث وهي الصلبة والسائلة والغازية، لكن ذلك غير صحيح إذ يمكن للماء أن يتواجد في حالة أخرى عند تغير الظروف الخارجية له فلا يكون بخارًا ولا سائلًا ولا ثلجًا؛ بل يكون في حالة ما نطلق عليها علميًا "السائل الحرج"، فعلى الرغم من كونه سائلًا شبيهًا بالحالة السائلة للماء، إلا أن له صفات خاصة ومميزة له بتلك الحالة، فهذا "السائل الحرج" يملك قدرات كبيرة على إذابة مختلف المواد الكيميائية والتي يعجز الماء وهو في الحالة السائلة المعتادة القيام بها.

كما إن الادعاء أن الماء لا بُد وأن ينتقل من الحالة الصلبة الى السائلة ومنها الى الحالة الغازية عبارة غير صحيحة على إطلاقها، فهذا أمر خاضع للظرف المحيط بالماء؛ إذ إنه مع تغيُر الظرف الخارجي للماء يمكنه أن ينتقل من الحالة الصلبة (الثلج) الى بخار الماء بصورة مباشرة ودون المرور بالحالة السائلة، والعكس صحيح أيضًا فيمكنه أن يتحول من بخار الى ثلج دون المرور بالحالة السائلة.

ومن صفات الماء العجيبة أن كثافته أعلى من الثلج، وهي من الخواص النادرة للمواد فعادة تكون المواد أكثر كثافة عندما تكون في الحالة الصلبة، ولكن الماء يسلك سلوكًا مغايرًا؛ فعندما تضغط بشدة على قطعة الثلج فإنها تذوب الى ماء، ولهذا السبب فإننا نلاحظ أن الثلج يطفوا في مياه البحار، ولولا هذه الخاصية لتجمدت أعماق البحار وتجمدت على إثرها الكائنات التي تعيش في الأنهار والبحار والمحيطات ولقضي عليها.

إن السبب الذي يجعلنا نلاحظ أن صفات الماء تتغير بتغير الظروف الخارجية بحيث لا تكاد تبقى صفة واحد ثابتة هو أن الماء الذي نتعامل معه في حياتنا اليومية هو عبارة عن عدد كبير من جزيئات الماء، ولذا فإنَّ ما نراه من صفات للماء تنتج عندما يجتمع عدد من جزيئات الماء معا فصفة الغليان والسيولة والتجمد وجميع الخصائص الأخرى التي نعرفها في حياتنا اليومية عن الماء لا وجود لها عندما ننظر الى جزيء وحيد للماء، فالخواص التي نعرفها خواص تنشأ من القوى التي تتواجد بين جزيئات الماء ولا تنتج في جزيء الماء نفسه، فجزيء الماء نفسه لا يمكن وصف درجة تجمده أو غليانه أو في أي حالة من حالات المادة يتواجد فيه.

هذه بعض صفات الماء غير المألوفة لنا ولكن لا تظن أننا تعرفنا عليه، فما خفي أعظم!

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس