د. صالح الفهدي
تتضمَّنُ مقالتي هذه دعوةٌ إلى الحكومة الرشيدة للقيام بمراجعاتٍ تاريخيَّةٍ؛ لأنها هي المعنيِّة بإدارة الدولةِ، وتوجيهِ طاقاتها، واستثمار مواردها، وتحديد اتجاهاتها، ورسم سياساتها.
من البديهي أن تقوم الدول بمراجعاتٍ تاريخيَّة، وأَصفها بالـ"التاريخية" لأنها تحدثُ في مُدَدٍ متابعدة زمنياً، تتقلَّصُ هذه الأزمنةُ كلَّما تسارع التقدم في نُظُم الحياة- كما يحدثُ اليوم- على عكس العقود السابقة قبل التسعينات مثلا والتي شهدت ثورة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. تتضمَّنُ الدعوة القيام بمراجعةٍ شاملةٍ في أنظمة الدولة الأساسية: التربوية، والتعليمية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والإعلامية، والإدارية، والتشريعية، وذلك لأسبابٍ منطقيةٍ وعقلانيةٍ، وسأوضِّحُ تفاصيلَ ذلك.
إنَّ للأمَّةِ شخصيَّةٌ لها مميزاتٍ، وسماتٌ تكوَّنت عبر مراحلَ تاريخيةٍ متلاحقة، وعبر تكريسٍ ثقافيٍّ معمَّق، يطلقُ عليها "الهوية الوطنية"، تتناسخُ منها الشخصيات الفردية للشعب حتى يصبحُ الفردُ الواحدُ ممثلاً للكلِّ في شخصيَّته لأنه أَخذ من "الشخصيَّة الجمعية" صفاته، كما أخذ الوليدُ الجينات من والديه، وأخذت الشجرة ما انطوت عليه البذرة.
تتعرَّضُ الهوية الوطنية والهوية الفردية اليوم إلى مؤثراتٍ قويَّةٍ تضربُ الصميم، وتحدثُ التغيرات المختلفة في أنساق مختلفة من الأفكار والاعتقادات والأخلاقيات والتعاملات، ومن هُنا يبدأ التشكل الجديد لهذه الهويات داخل الوطن الذي يظنُّ نفسه محصَّناً، ورصيناً أمام هذه التداعيات المختلفة، وعلى ذلك نرى صوراً مشوَّهةً من الإنتماءات والولاءات بل والهويات مخالفٌ لما كان عليه جيلُ الآباءِ أو الأجداد.
تأتي المراجعة الشاملة للمنظومة التربوية على رأس هذه المراجعات لأن التربية هي الأساس الذي يبني شخصية الإِنسان، ولا يخفى على أحدٍ ما يتعرض له إنسان اليوم من قصورٍ تربوي في الأسرة، ومن شللٍ تربوي إجتماعي عام، ومن الشبكات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي من خلخلةٍ في الأخلاقيات، وتهشيم في المعتقدات، وتسفيه في الإنتماءات، وتحقيرٍ في الولاءات، مما نتج وسينتجُ عنه إنساناً مشوَّهاً في ثقافته، مشتتناً في أفكاره، متضعضعًا في معتقداته..!
منظومة التعليم هي من أهم المنظومات المحتاجة إلى المراجعة الشاملة ففي حين تؤسس التربية قاعدة الأخلاقيات والمباديء والقيم فإنَّ التعليم يعتني بالعقل، ويوجِّه المدارك، ويصقلُ الشخصية. التعليم هو موجِّه الشعوب نحو غاياتها السامية، ومراميها الرفيعة. ولا جدال على أن التعليم يفترضُ أن يتجدَّد بصورة تتفاعل مع معطيات العصر وأفكاره ومنتجاته ومتغيراته أمَّا أن يظل كما هو دون تحديث فلن تتقدَّم الأمة قُدُما نحو بلورة رؤاها أو اللحاق بركب الأُمم المتقدمة عليها.
المراجعة الاجتماعية تُعنى بما يحدثُ اليومَ في المجتمع من ضعفٍ في الترابط الاجتماعي، والتواصل بين أفراد المجتمع الذي كان صمَّامَ أمانٍ في الماضي ضدَّ الإنحرافات إذ كان المجتمعُ يربِّي، ويقيِّم، ويصون، أمَّا اليوم فالمجتمعُ بيوتٌ متراصَّةٌ في أحياءَ متقاربة، لكنه ضعيفُ التقاربِ الاجتماعي، فاترُ العلاقات.
المراجعة الإعلامية مهمَّة هي الأُخرى؛ لأن الإعلامَ سلطة لها نفوذها، وتأثيرها على الأفراد والمجتمع، فهو يقودُ التغيرات، ويصون الهويات، فإذا انعدمت الإستراتيجية الإعلامية فإن رسائله تصبحُ مشتتة لا تدركُ غاياتها، ولن تتجاوز الاجتهادات الفردية، وهُنا يتوجَّب وضع استراتيجية إعلامية ذات منهجٍ وعمقٍ وأبعاد، لكي يقوم الإعلام بمهمتهِ إزاء الحفاظ على هوية الأُمة، ومقدرات الشعب.
المراجعة الإقتصادية هي الأخرى ذات قيمة تكمنُ في المتغيرات التي صاحبت العولمة، وتغيرات مفاهيم الاقتصاد، وأساليب التعامل مع الدول، والانفتاح على الشراكات الاقتصادية، والتوافق مع التكتلات الاقتصادية، وبناء المناطق التجارية، وصياغة الثقافة الاقتصادية للمجتمع، وعلى ذلك يتوجَّب إحداث المراجعة لتتواءم مع السيرورة الحديثة للاقتصاد، وفهم المتغيرات التي تشكِّل فرصاً وتحديات للبشر.
المراجعة الإدارية هي أمرٌ لا مناصَ منه، فالعملُ وفقَ نظمٍ متأخرة، وعقليات قديمة لن يُسهم في تسريع التنمية التي تحتاجُ إلى عقليات منفتحة، وقيادات كفوءةٍ، تعملُ من أجل التسهيل والتيسير ومحاربة البيروقراطية، وتفعيل الحوكمة دون عوائق. وليس بخافٍ على أحد أن الإدارة هي الدفة التي تقودُ الدول، وما لم تحظَ باهتمام بالغ، وحرص عظيم على أن تكون دافعاً قوياً للتنمية فلن تتقدَّم الأوطان.
المراجعة السياسية هي مما تستدعيه التحولات في العالم الذي بدأ يشهد تغيرات تتمثَّل في ظهور أقطابٍ منافسة، تُنهي سياسة القطب الواحد الذي تسيَّدته الولايات المتحدة الأمريكية، تلكم الأقطاب هي الصين وروسيا والإتحاد الأوروبي الذي بدأ يلملم شعثه ويراجع سياسته هو الآخر خاصة تلك المتعلقة بأمريكا.
المراجعة التشريعية أساسية تتعلَّقُ بالمسار الذي انتهجتهُ البلادُ في منهجية الشورى، وطُرق الترشُّح، والاشتراطات المتعلقة بالترشُّح، وآليةِ عملِ الشورى، وصلاحيات المجلس، وفي الجانب الآخر مراجعة عمل مجلس الدولة، ومعايير الترشيح للأعضاء، ومدى الأهمية الكامنة في آليةِ عمله.
هذه مراجعات تاريخيةٌ أرجو أن تُؤخذ على الصعيد الحكومي مأخذ الاهتمام والاعتبار، وأن يُكلَّفَ من أجل القيامِ بها مكتباً استراتيجياً يتبعُ رأس الحكومة يقوم بما يتحتَّم عليه من مراجعات تاريخية ويرسم السياسات المتعلقة بكلِّ مسار، ثم يضع الإستراتيجيات الواقعية التي تضمنُ تحقيق الرؤى على اختلاف أمدائها، وواجباتها.