أهمية المعرفة في صناعة القرارات الاستراتيجية

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

 

التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي في أي أمّة من الأمم مرتبط ارتباطًا مباشرًا بما يتم إنفاقه على البحث العلمي الرصين الذي تنفذه في العادة المراكز البحثية المتخصصة والجامعات العريقة التي تخصص جزءًا كبيرًا من موازناتها للدراسات والبحوث التطبيقية، التي يكون لها مردود سريع على المجتمع والتنمية الوطنية بمختلف أبعادها، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ فالجامعات والمعاهد التي تركز على التعليم الجامعي فقط، ثم تمنح الشهادات الورقية لمنتسبيها أصبحت أقرب للمدارس الابتدائية منها إلى التعليم الجامعي الجاد.

إن وظائف الجامعة التقليدية ليس فقط إكساب الطلاب المهارات والمعارف؛ بل تمتد تلك الوظائف إلى رفد الدول بالاختراعات والبحوث العلمية التي تنير الطريق للمسؤولين في أي بلد وتساعدهم على اتخاذ القرارات الرشيدة في مختلف المشاريع والاستراتيجيات الوطنية. فالمعرفة الحقيقية المقننة أثمن ما في هذا الوجود لكونها تقلل التكاليف الباهظة لتنفيذ المشاريع، وتختصر الزمن المطلوب للإنجاز. والجامعات الخاصة المنتشرة في مختلف مناطق السلطنة وعددها الآن 7 جامعات لا يزال دورها محدودًا في إسهامها في البحوث العلمية التجريبية والوصفية على حد سواء على الرغم من الدعم السخي الذي قدمته الحكومة لهذه الجامعات خلال العقدين الماضيين؛ والذي يقدر بعشرين مليون ريال عماني لكل جامعة، هذا فضلاً عن منح هذه الجامعات مساحات شاسعة من الأراضي في أفضل المواقع. السبب في ذلك يعود إلى الأهداف التجارية والبحث عن الربح السريع في أسرع وقت ممكن. يجب تذكير الجميع بأن الجامعات العريقة في العالم والتي تتربع حاليًا على قائمة أفضل المؤسسات التعليمية دوليا، اعتمدت على المنح والهبات التي أتت من الأغنياء في هذه المجتمعات الراقية التي كان غاياتها زرع العلم والمعرفة وإهداء المجتمع بل العالم أفضل تعليم جامعي على قرار جامعتي هارفارد وستانفورد في أمريكا، وهذا الصرح العلمي الشامخ الأخير المتمثل في جامعة ستانفورد تبرع به ليلند ستانفورد وزوجته جين كوقف، وذلك لتخليد ذكرى ابنهم المتوفى الذي تحمل الجامعة اسمه منذ تأسيسها 1891م.

أما على الجانب الآخر فتعد جامعة السلطان قابوس بإمكانياتها الكبيرة ومخصصاتها البحثية التي تقدر بمئات الآلاف قد خطت خطوات متقدمة نحو التميز في مجالات بحوث النفط والطاقة والطب والمياه والزراعة والأسماك ولكن لم تصل إلى ذروتها المطلوبة في الدراسات الاجتماعية والإنسانية والتربوية. صحيح أحرزت هذه الجامعة العريقة الترتيب السابع حسب تصنيف (QS) مما جعلها من بين أفضل 10 جامعات، وذلك ضمن 181 جامعة عربية منافسة من 18 دولة في الوطن العربي. وعلى الرغم من هذا التميز في هذه المؤسسة التعليمية الرائدة، إلا أننا لا نرى بشكل واضح أثر تلك الدراسات المتعمقة على قرارت الحكومة، خاصة عند تنفيذ المشاريع العملاقة والبنى الأساسية في البلد بشكل عام. فيجب الاعتراف بأن هناك العديد من القرارات الاستراتيجية التي تكلف خزينة الدولة مئات الملايين من الريالات ولكنها تتخذ بشكل ارتجالي ولا تخضع للتحليل والدراسة المطلوبة. ولعلنا نتذكر ما خلفته الأنواء المناخية في مختلف المرافق والمباني والطرق التي لم يتم دراستها على الوجه الصحيح عند التخطيط والتنفيذ؛ وخير دليل على ذلك طريق "الباطنة الساحلي" المتعثر، وكذلك مشروع تطوير "الحافة" في محافظة ظفار المتوقف من أضرار.

ونستنج من ذلك أن بعض أجهزة الدولة تتخبط في قراراتها الاستراتيجية ولا تكلف نفسها البحث عن الأساليب والطرق العلمية التي يعتمد عليها عند تنفيذ المشاريع الوطنية؛ بل يكون التركيز على المصالح الشخصية للمنتفعين من تلك المشاريع.

لا شك أن الارتجالية في تنفيذ بعض المشاريع الحكومية كانت لها عواقب وخيمة وخسائر مادية كبيرة لا زلنا ندفع ثمنها إلى هذه اللحظة، وهنا أتذكر مشروع خط أنابيب الغاز بين السلطنة والهند في عقد التسعينات من القرن الماضي، إذ تم توقيف المشروع بعد خسائر بعشرات الملايين من خزينة الدولة، فقد وصف أحد الخبراء ذلك المشروع بالانتحار الاقتصادي في أعماق المحيط الهندي.       

يبدو لي أن هناك فريق من المسؤولين الذين لا تعجبهم الدراسات والبحوث العلمية ويفضلون الاعتماد على تجاربهم وخبراتهم الشخصية عند اتخاذ القرارات، معتمدين في ذلك على فراستهم وتوقعاتهم التي لا يشوبها الخطأ من وجهة نظرهم. من هنا كنت دائماً أسال نفسي سؤالا في منتهى الأهمية: لماذا تبتعث الحكومة العمانية آلاف الطلاب لدراسة الماجستير والدكتوراه في أعرق الجامعات في الخارج وداخل السلطنة، ثم عند رجوهم؛ لا أحد يلتفت للبحوث والدراسات التي أنجزها هؤلاء الباحثون؛ خاصة تلك المتعلقة بالسلطنة؟!. من المؤسف حقاً أن هذه الرسائل العلمية المنجزة والتي خسرنا عليها الكثير من المال والوقت والجهد مكانها رفوف المكتبات والأدراج. 

وعلى كل الأحوال لا تزال مخصصات البحث العلمي الإجمالي في السلطنة ما دون المستوى المطلوب؛ إذ نسبته أقل من 1% من إجمالي الناتج المحلي في البلد، بينما النسبة العالمية المفترضة تصل إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة. فتعد دولة قطر الوحيدة بين الدول العربية التي لامست هذه النسبة. إن التقدم المعرفي، والإنجازات العلمية في كثير من الدول الصناعية الكبرى يعود إلى الإنفاق السخي على البحوث والابتكارات العلمية من قبل الحكومات والشركات الخاصة، فالولايات المتحدة الأمريكية تنفق سنوياً على الدراسات العلمية أكثر من 476 مليار دولار، ثم تأتي جمهورية الصين الشعبية في المرتبة الثانية بمبلغ وقدره 370 مليار دولا في السنة. أما اليابان التي تأتي في المرتبة الثالثة فتنفق سنويا في مجال البحوث العلمية 170 مليار دولار.

وعالميا بلغت المراكز البحثية ذات السمعة الدولية، والتي يمكن الاعتماد على ما تنتجه من دراسات وبحوث رصينة حوالي 7000 مركز بحثي في 182 دولة حول العالم.

وربع هذه المراكز في الولايات المتحدة وحدها. وتصنف ثلاثة مراكز باعتبارها الأكثر تأثيرا في صناعة القرار العالمي، ويأتي مركز بروكنجز الأمريكي الأكثر تأثيرًا في السياسات الاقتصادية والأمنية والإعلامية في أمريكا وخارجها. بينما يأتي معهد تشاتام هاوس البريطاني والمعروف رسميًا باسم المعهد الملكي للشؤون الدولية؛ ضمن هذه المراكز ذات السمعة الرفيعة، حيث يدرس ويضع حلولا واستراتيجيات لمعظم المعضلات

من هذا المنطلق؛ تعتمد معظم الحكومات وصناع القرار فيها؛ على المعلومات الصحيحة والبيانات الدقيقة، التي توفرها البحوث والدراسات العلمية؛ فالقرارات التي تبنى على التخمينات والاعتقادات الشخصية لا يمكن أن يكتب لها النجاح.

وفي الختام، ندعو من هذا المنبر إلى التعجيل بإنشاء مركز علمي متخصص في الدراسات العمانية، يكون من مهامه دراسات المشاريع الحكومية والتخطيط للخطط الخمسية ومتابعة تنفيذ رؤية "عمان 2040"، على أن يلحق بهذا المركز أفضل الباحثين العمانيين من جامعة السلطان قابوس والمؤسسات الأخرى، كما يجب أن يلحق هذا المركز المقترح بمجلس الوزراء.