"فضولي جاب لي كلمة".. والغازلات

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

"فضولي جاب لي كلمة

غشيم ما يعرف المعنى

وجاوبته بمعروفه

غلب ماطاع يفتيها

وَخلي القال والقالة

عسى الله يبدل الحالة

وبين الهِلّ والخالة (1)

ويا ربي تجليها"

 

المقطع الغنائي أعلاه واحد من مقاطع الشعر المغنى في ظفار للمرحوم الشاعر الظفاري نور محمد البلوشي وغيره من نجوم شعر ظفار المغنى الخالد.

ولطالما كانت مثل هذه المقاطع الغنائية وغيرها تتردد على مسامعنا صغارا بالأصوات العذبة لغازلات القطن وهن منكبات على دولاب (محلج) غزل القطن وتردد أصداء صدحها مساء كل يوم من جنبات مختلفة من المنطقة البحرية لبيوت الحافة المواجهة للبحر، خصوصا في فصل الخريف، حيث يغضب بحر العرب خلاله وتزأر أمواجه وترفض- رحمة منها- دخول الصيادين إليه وكأنها تعطيهم إجازة سنوية مفتوحة طوال موسم الخريف، فيستغلون هذه الإجازة في الاستعدادات لصناعة وإعداد شباك الضاغية العملاق (الجريف) الذي يلتهم بفمه المفتوح من المقدمة كميات كبيرة من السردين (العيد) وأيضًا صناعة شباك (الشاية) لتحميل السردين من فم الجريف وغير ذلك من مستلزمات بدء موسم نشاط اصطياد السردين وجرف وسحب كميات السردين التي تحتويها الضاغية (الحوي) في فصلي الصرب والشتاء حيث تتوارد تجمعاتها وتخرج تباعا من أعماق المحيط إلى محاذاة الشاطئ كل عام على طول المنطقة الممتدة من ريسوت غرباً إلى طاقة شرقًا.

تتجمع الغازلات ثلاثا ورباعا وقد يتضاعف العدد أمام أحد هذه البيوت المتراصة خلف دواليب غزلهن اليدوية، تمسك الواحدة منهن بيديها الشمال كومة من القطن الظفاري الذي كانت تكثر زراعته في سهل عين حمران إلى حد وصل كثرة إنتاجه إلى التصدير للخارج آنذاك واقتصرت زراعته بعد ذلك على مزارع صلالة، وتمسك بيدها اليمين على مقبض الدولاب تحركه بعكس عقارب الساعة بانتظام وتناغم ليلتف القطن في الأخير على النول المثبت بالدولاب على شكل خيوط قطنية جاهزة، يقوم البحارة الرجال في الطرف الآخر باستلامها من الغازلات وكل منهم يتولى صناعة جزء من شباك (الجريف) ويتم كل ذلك بمصاحبة سيمفونية غنائية تصدح بها النساء على حفيف أصوات حركة الدولاب ويردد معهن الرجال ليسهل عليهم بذلك العمل ويمضي الوقت بدون كلل أو ملل.

على رمال الشاطئ الممتدة تقوم مجموعات أخرى من البحارة الرجال بتجميع ما صنعوه من قطع شباك الجريف وتخييطها ببعض ليصبح الجريف بالطول المناسب للضاغية فيما تسمى هذه العملية (باللكيد) ولهذه العملية أيضًا طقوسها وشلاتها.

وحتى يكتمل الجريف بكل ملحقاته من شباك وحبال مختلفة السماكة والطول مصنوعة من ألياف ثمر النارجيل ويُصبح بالتالي الجريف وأدوات الضاغية بكل ملحقاته جاهزة لوضعها على متن سنابيق الضاغية الكبيرة المعمولة بدورها أيضًا محلياً بمواد محلية بواسطة نجارين وصناع محلين مهرة.

دولاب أو عجلة غزل القطن تشبه تمامًا في تشكيلها عجلة الحوض أو دولاب الساقية (المنجور)، إلا أنها أصغر بكثير والذي يستخدم لرفع المياه من البئر إلى حوض السقي؛ حيث يسحب الماء من البئر بواسطة (الغرب) وهو وعاء جلدي ضخم لرفع المياه من الآبار بالاستعانة بالجمال أو الثيران لسحبه للأعلى لتفريغ الماء بحوض الساقية وتسمى هذه العملية بالسناوة ومعروف الأصوات الشجية التي تصدر من هذه العملية نتيجة صرير الحبال ببكرة الدولاب (المنجور) جيئة وذهاباً لرفع وتفريغ الماء ويكون ذلك مصحوبًا بأغانٍ خاصة بها، شجية ولها شعراؤها المعروفون أيضًا، ويؤديها من يقومون بهذه العملية (المقود والسناوة) على تلك الأصوات والألحان.

يجلس بعض الباعة والصغار بالقرب من هؤلاء الغازلات لبيع بعض الحلويات كقشاط النارجيل بنوعيه اللين والصلب واللقيمات والكعك الظفاري بنوعيه الرقيق والثخين وبعض الفواكه كالموز وقطع البطيخ (الجوح) والبيذان والرمان والمستعفل والشيكو والنبق (الدووم) وغيرها، حتى اللحوم كالمشاكيك والمفهيش والمعجين لها مكانها أيضا في هذا السوق المفتوح، سوق ميدان سمحان (الغب) بالحافة.

عندما تكون كلتا يدي الغازلة مشغولتين طوال العملية بالقطن ومقبض الدولاب وأيضا عيناها منهمكتين تراقب باستمرار العملية حتى لايشتد خيط هنا أو يرتخي آخر هناك فتتوقف العملية وينطبق عليها بالتالي: "لا تكوني كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا". فتستعين على هذه الحالة من التركيز والانشغال وتركن لصوتها وتطلق له العنان لتشدو بهذه الأبيات الشعرية الشجية تناغمًا مع حفيف صوت آلة الدولاب وخيوطها في ملحمة غنائية تشد السامعين وتبهر الناظرين.

الغازلة تشغف بعملية الغزل وتتمازج وتتناغم معها كما يشغف المتغزل بالمرأة بمحادثتها والتودد إليها.

طيور النورس البحرية أيضًا تستجيب لهذه الملحمة ولا يفوتها أن تحلق بالقرب منها وحواليها؛ لتعبر فيما يبدو بدورها عن استمتاعها بهذه البانوراما فتضيف بذلك جمالًا على جمال.

يُقال إن بعض شعراء الزامل المشهورين (شاعر القبيلة) المعروف عنهم بأنهم لا يقولون الشعر المغنى لتناقضه مع مساقاتهم الشعرية ووظيفتهم المعنوية كشاعر قبيلة وحامي حماها، كانوا يسربون لهن بعض أبيات الشعر من هذا الفن بعد أن يضمنوا أنَّه لن ينسب إليهم نتيجة للأعراف السائدة آنذاك.

السناوة في ظفار كانت تقوم عليها حياة كاملة للبشر والضرع والزرع، قبل دخول مكنة الماء، وكذا كان حال الغزل بعجلة الدولاب التي رغم حداثتها نوعًا ما على مستوى قارة آسيا؛ حيث لم تعرف إلا في حوالي القرن الحادي عشر الميلادي، وقبلها كان يُستخدم النول اليدوي البسيط القليل الإنتاج، وعلى ما يبدو أن هذه العجلة قد دخلت ظفار في مرحلة متقدمة وليست ببعيدة عن زمن دخولها قارة آسيا؛ حيث كان أول ظهور لها موثق في كل من إيران والعراق والهند، وهذا يستنتج مما وصلت إليه هذه الحرفة والنشاط القائم عليها في ظفار من حياة وأعراف وتراكمات مصاحبة لعملية الضاغية الضاربة بدورها في القدم، وقد أسهب ابن بطوطة في الحديث عنها قبل أكثر من 700 عام تقريبًا.

إنه ليحز في النفس اليوم أننا وبعد مضي نصف قرن من نهضتنا الاقتصادية والعلمية الحديثة واستغنينا بها عن حرفنا وأنشطتنا التي عشنا عليها لمئات السنين وتخلينا عنها تنكرًا خلال سنين قليلة، وأصبحنا بالتالي نعيش عالة على التجارة من الخارج في معظم شؤون حياتنا وحتى زرعنا وضرعنا للأسف الشديد.

هل ما زال الأمل معقودًا على شبابنا في إعادة الأمور إلى نصابها ولو بالتدريج؟!

نعتقد أن بوادر الإجابة على السؤال أعلاه تأتينا اليوم مع "شاهين" بعد أن عفر شبابنا ليس أيديهم فقط بأكوام أتربة ما خلفه؛ بل بكل أجسادهم.

نرجو أن تكون هبّة شباب عُمان اليوم بداية لتغيير ما حلَّ بنا في حياتنا الراهنة والتي أصبحنا معها مليونين ونصف المليون عُماني، مع وجود مليون ونصف المليون وافد، أصبحوا هم المستفيد الأكبر من مقدراتنا ومستحوذين حتى على تقديم الخدمات لنا، بعد أن ترفعنا عن خدمة أنفسنا بأنفسنا في أبسط أمور حياتنا، وأصبح شبابنا عاطلا عن العمل في بلده.. نحسب هذا كله وما قبله دافعًا لبدايات التغيير ووقف استنزافنا وحرمان أنفسنا من هبات الرب لنا، وهي كثيرة وأن لا نجد أنفسنا في النهاية مرددين مع شاعرنا القديم:

على الله عودة الماضي

مهما كانت العودة

 

----------------------

  1. "الهِلّ" بكسر الهاء وتشديد اللام، يقصد بهم أهل العروس والخالة أم العريس.