حساسية "اللفظ" عند كتابة التاريخ

 

 

 

◄ أن تكتب التاريخ هو أن تسمي الأمور بمسمياتها.. لا أن تعارض هذا أو تقف مع ذاك!

 

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

 

"حقاً إن بعض النّاس يقرأون التاريخ ولا يفهمون منه شيئًا" أدولف هتلر.

 

 

في كتابة التاريخ المُعاصر تلاحقنا السياسة ومفرداتها الدبلوماسية الحذرة والدقيقة الوصف، وعندما يبدأ أي مؤرخ حصيف بالكتابة عن حدث ما، يحاول انتقاء الألفاظ وتركيب العبارات بما يوحي للمنطقية والمعقولية، إنما لا يمكن أن ننكر أن الانتقاء أحيانا يوجهه للمدرسة الأمنية أو الخشية من عاقبة سياسية ما، هناك أمور يستطيع المؤرخ المعاصر تأريخها بشكل يتناسب من القناعات الشخصية، بل بما يتناسب مع شكل السياسة العامة لبلده، لذا من الصعب الاجتهاد في بعض الأمور حتى لوتقبلنا خطأ الاجتهاد كاجتهاد علمي معرض للخطأ والصواب، لكننا قد نجد أنفسنا أمام شخص وقع في خطيئة لا تغتفر سياسيا!

سأوضح أكثر مثلا لو اجتهد وكتب أحد المؤرخين المعاصرين أنَّ أسامة بن لادن مات شهيداً وأنه كان مجاهداً لايشق له غبار وأنه وأنه، وغير ذلك من الإسباغ من صفات الإشادة والتوقير، فهل سيسمح له بنشر تأريخه في منشورات رسمية؟

الواقع لا يقول ليس فقط لا، بل قد يساق هذا المؤرخ المسكين لبلاط المحاكمة بتهمة مُعاداة السامية وبأنه داعم للإرهاب العالمي!

قِسْ على ذلك أمور كثيرة أتركها لخيال وتقدير القارئ،هنا لا أحدثك عن جبن المؤرخ أو شجاعته، إنما علينا ألا نتوقع أكثر من المعقول في الاجتهادات، وألا نوزع التهم جزافاً بأن هذا المؤرخ منافق أو يتقرب من السلطة أو أيا من الاتهامات المشابهة، علينا ألا نحمل الأمور فوق تحملها، لكن وحسب رأيي يبقى هناك بصيص من الأمل بالمعقولية على الأقل في كتابة التاريخ وبما تسمح به القوانين، وأعطيك مثالًا: بإمكان المؤرخ كتابة ما يريد وفق ما يرى (على اعتبار الثقة بنزاهة وأمانة المؤرخ) من خلال الأبحاث العلمية التي لها ما هو ليس لغيرها تقديرا للباحثين وثقة بالعلم.

نعلم أننا كبشر لسنا معصومين وبأن مسيرة الأفراد والجماعات أياً كانت لها ما لها وعليها ماعليها، ومهمة المؤرخ تأريخ وتوثيق وتسنيد المواقف الحادثة والجارية أحداثها بما يتناسب والموضوعية العلمية والمصداقية الأمينة غير القابلة للشك والقابلة للتحليل والتفكيك كمفهوم ورأي، وليس كحدث، وقع أساسا وله حيثياته؛ لذلك الحدث يبقى كما هو؛ لأنه لايحتمل زيادة أو نقصانا، وأساسا علم التاريخ يسر البحث التحليلي لذات الحدث؛ حتى لا يقع الباحث في حفرة الزيف والتزوير، وهي تاريخيا ذات كلفة عالية؛ سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول كذلك، أن أخطر ما يمكن الوقوع به هو تغيير الحقائق وتزوير الأحداث لجهة ضد أخرى وطرف ضد طرف، وفي هذا فالتاريخ له كلمته القاسية التي لاترحم.

الواثق في نفسه فقط المتجرد من الحساسيات بأنواعها هو من يستطيع كتابة التاريخ، أن تكتب التاريخ هو أن تسمي الأمور بمسمياتها، لا أن تعارض هذا أو تقف مع ذاك، لا يجوز خلط وجهة النظر والعاطفة الشخصية مع كتابة التاريخ والتوثيق، في حرب الأيام الستة أو "النكسة"- أو سمِّها ما شئت- في يونيو 1967 من القرن الماضي أسماها عبدالناصر بالنكسة (1)؛ وهي في الحقيقة كانت هزيمة ساحقة للأنظمة العربية بقيادة عبدالناصر (هناك من وصفها بأنها هزيمة الفكر القومي)؛ إنما لأننا عاطفيون ونرفض الاعتراف، فقد تفنن مؤرخونا وأهل صاحبة الجلالة (الصحافة) بتفصيل المفردات غير الواقعية أو قل "التجميلية"، لكنها كانت من أشد الهزائم وقعًا، وما يزال جرحها غائرًا!

ما أتعس المؤرخ الذي مطلوب منه أن يؤرخ ويوثّق لفترة زمنية بناءً على وجهات نظر أو عواطف أو فكر مُضاد، وأعانه الله إن تمسك بمبادئ الصدق والأمانة في النقل، وقتها سيكون وضعه بالتأكيد غير مريح، وحتى كلمة غير مريح لها معان غير مريحة ومتعبة ولها أثر كبير في التعاسة وفقدان الأمان!

ما أجمل أن نتقبل التاريخ كما هو؛ لنتعلم ونستشرف المستقبل، وليس لتزييفه وتفصيله كما نريد!

 

_____________

 

  1. نقل وتواتر عن مصادر غير رسمية بأن مسمى أو لفظ النكسة هو من بنات أفكار أو تأليف الكاتب الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل صاحب النفوذ الإعلامي إبان تلك الفترة.