القيمة المحلية المضافة ليست في الماديات فقط

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي

 

قبل أيام حضرت جانباً من مُنتدى اقتصاديٍّ نظمته جريدة الرؤية، وكان عنوانه "القيمة المحلية المضافة"، وكان هذا المنتدى حلقة في سلسلة منتديات تقيمها الجريدة وتناقش مواضيع اقتصادية مُهمة. وبغضّ النظر عن العنوان وما إذا كانت الترجمة تعكس بدقة جوهر الموضوع أو تخالف عنوانه السابق، وهوin-country-value، فقد تم تعريف "القيمة المضافة المحلية" على أنها "مجمل الإنفاق الذي يبقى داخل البلاد، ويعود نفعه على تطوير الشركات والكوادر البشرية، ويسهم في تعزيز الإنتاجية الاقتصادية للسلطنة".

وهذا التعريف هو الذي أخذت به شركة تنمية نفط عمان PDO، التي يبدو أنها تأخذ الدور الريادي في هذا الموضوع؛ حيث تقول الشركة إنها تتبع منذ عدة سنوات سياسات وخطوات في مجال توسيع فائدة الاقتصاد الوطني من إنفاقها وبرامجها الاستثمارية. وفي السنوات الأخيرة بدأت شركات أخرى خارج قطاع النفط بالسير على خطى شركة تنمية نفط عُمان في هذا المجال. ويختلف مفهوم "القيمة المضافة المحلية" عن مفهوم "المسؤولية الاجتماعية" للشركات، الذي يعني مسؤولية الشركة أو المؤسسة عن آثار سياستها وأنشطتها على المجتمع والبيئة. وتقوم الشركات في إطار المسؤولية الاجتماعية بالتعويض عن تلك الآثار في صورة تمويل تقدمه لبعض المشاريع الحكومية والأهلية. ولعله من المفيد هنا من الناحية المعرفية استخدام مصطلح "العلاقة التعاقدية" ومصطلح "العلاقة التراحمية"، اللذين استخدمهما أو استنبطهما المفكر العربي المصري عبدالوهاب المسيري رحمه الله لوصف العلاقة الاجتماعية والاقتصادية بين الناس عامة. وإنني هنا أرى أن العلاقات القائمة في إطار سياسات "القيمة المضافة المحلية" هي علاقة تعاقدية صرفة، أي أنَّ الدافع لها تحقيق منافع مادية لأطرافها. أما العلاقة القائمة ضمن برامج "المسؤولية الاجتماعية" ففيها شيء من العلاقة التراحمية؛ لأنها تشمل مشاريع قد لا تعود كلها بالنفع المادي المباشر على أطرافها، مثل برامج تحسين البيئة في المدارس، أوإنشاء وحدات علاجية معينة في بعض المستشفيات، أو مساعدة الأهالي في بعض الأحياء والقرى، مثل بناء مجالس عامة أو غير ذلك من المشاريع ذات الطابع الاجتماعي أو البيئي.

وعودة إلى ما دار في المنتدى المذكور، فقد أفاض المتحدثون فيه في التعريف بما تقوم به الشركات التي يمثلونها، وعددوا الإنجازات والنجاحات التي حققتها تلك الشركات في مجال "القيمة المضافة المحلية". ومن أكثر ما تم تعداده من سياسات ونجاحات في المنتدى ما قامت به تلك الشركات من أجل زيادة مشترياتها من السوق المحلي، وكذلك الاتفاق مع بعض الأهالي والمستثمرين في مناطق امتياز إنتاج النفط على إنشاء شركات للقيام ببعض الخدمات، أو التعاقد مع بعض المستثمرين على إقامة صناعات تسد جزءًا من احتياجات شركات استكشاف وإنتاج النفط من بعض المنتجات، الأمر الذي أفاد في تخفيض التكاليف. كذلك أسهب بعض المتحدثين في شرح جهود شركاتهم في مجال إيجاد فرص عمل العمانيين، سواء لديها مباشرة أو في الشركات المتعاقدة معها، وكذلك إسهاماتها في مجال التعليم وابتعاث عدد من موظفيها للدراسة أو التدريب، إضافة إلى تقديم منح للخريجين للدراسة في الجامعات، سواء داخل عمان أوخارجها أوإدخال بعض الخريجين في برامج التدريب المتنوعة.

لا شك أنَّ بعض الشركات قامت بجهود مفيدة في تلك المجالات، وهي جهود تقع في إطار واجباتها ومسؤولياتها وليس سخاءً منها على الوطن ولا "قيمة مضافة" أومنّة قدمتها للمواطن. ولا شك أيضاً أن تلك البرامج أفادت بعض أصحاب الأعمال والمستثمرين وعززت من إنتاجية بعض القطاعات الاقتصادية وأسهمت في الناتج المحلي الإجمالي. لكن، وبصراحة تامة وبدون مواربة ومن غير مجاملة، فإن قطاع الأعمال والمال لعب منذ ظهور النفط في المنطقة العربية دورًا هدامًا تجاه الثقافة العربية، وتحديدًا تجاه اللغة العربية. وليس من المجازفة القول إنَّ الشركات جميعًا خالفت الأعراف؛ بل تجاوزت أنظمة وقوانين الدول التي تقول إنَّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية والوطنية وتلزمها باستخدامها في جميع أعمالها الرسمية. وتستوي في تلك المخالفات والتجاوزات جميع الشركات، سواء منها الشركات العابرة للقارات متعددة الجنسية أو الشركات المحلية. وقد ظهر ذلك في اختفاء اللغة العربية من المراسلات؛ سواء بين الشركات والحكومة أو بين الشركات وبعضها البعض وحتى بين الشركات وأفراد المجتمع. كما اختفت اللغة العربية في أن تكون لغة المحادثة والتخاطب في أكثر الشركات. وكان من نتيجة ذلك أن أصبح فريق من الطبقة الوسطى في المجتمع منبت عن محيطه وثقافته وتاريخه. كما ظهرت بين الفئات الدنيا من العمال لغة هجينة، حلَّت فيها مفردات غريبة محل مفردات عربية رصينة ولكنها بسيطة ولا تكلف فيها. وليس من المجازفة القول أن ذلك أدى إلى ظهور فئات في المجتمع فاقدة لما يمكن أن أسميه "ثلاثية الهويّة"، التي هي اللغة والتاريخ والأمل.

ولما كانت الشركات تُعلن أنها جادة في زيادة "القيمة المحلية المضافة"، وأن لديها من المبادرات والبرامج ما يصب في ذلك الاتجاه، فإنَّ عليها أن تبادر إلى تصحيح خطئها التاريخي وممارساتها اليومية تجاه اللغة العربية. إن على الشركات جميعاً سواء كانت من القطاع الخاص أوالحكومي، وسواء كانت عالمية أو محلية أن تبادر إلى النهوض بالثقافة. وحينما أتكلم عن الثقافة فلست أعني الجانب الهامشي منها، مثل الفنون الشعبية أو الألعاب الشعبية أو الشعر الشعبي، وإنما أعني اللغة العربية التي هي جوهر  الثقافة وأسها وفي الصميم منها. وأعتقد أن أغلى "قيمة محلية مضافة" يمكن للشركات تقديمها هي استخدام اللغة العربية في جميع مراسلاتها، والبدء في ذلك فوراً. وإذا تمَّ ذلك فسيمكن تحقيق عدة أهداف، منها خلق فرص عمل أكثر للعمانيين، كما ستستفيد الشركات من كثير من الطاقات الخلاقة والمبدعة التي لم تجد سبيلا إلى الوظائف سبب ضعف مستواها في اللغة الإنجليزية. وعلى الشركات كذلك، كلٌّ في  مجالها، أن تتعاون مع الجهات المعنية أو المهتمة بالتعريب لإصدار معاجم متخصصة بالمصطلحات المتصلة بالعلوم والمعارف الجديدة. وإذا تمَّ ذلك فستسهم الشركات في توسيع قاعدة العلوم والمعارف، وسيبرز قطاع المال والأعمال بوجه أكثر جمالا وسخاءً.

باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

تعليق عبر الفيس بوك