د. صالح الفهدي
ثمَّة تغيُّراتٍ قيميَّةٍ حادَّة في مجتمعاتنا، دَعونا باستماتةٍ إلى الالتفاتِ إليها ولا ثمَّةَ من منصتٍ، ولا من مُجيب!! والأمرُ ليس مقتصراً على هشاشة القيمِ في المجتمع بسبب المؤثرات؛ بل إن المؤسسات الحكومية قد أسهمت في هذا التضعضع القِيمي، وقد قلتُ ذلك بصراحةً في جلسةٍ عُقدت بمجلس الدولة وفي ورقةٍ لي قدَّمتها في جامعة السلطان قابوس منذُ سنوات.
لقد سعيتُ أن أبوحَ ما ينضحُ به ضميري الوطني الخالص أن لدينا تقهقرٌ قيمي عام وحادَّ يصيبُ ثقافتنا، وهويتنا، وبناء شخصياتنا في مقتل، ولكن يبدو أننا لا نريد أن ننعتق من خَدَر العيش في أمجادِ الماضي وبطولاته، ونلوي أعناقنا إليه أكثرَ مما نشرئبُّ بها نحو آفاق المستقبل..!
في ندوةٍ عقدت بإحدى الكليات بعنوان "القيم العُمانية" تكلَّمتُ فيها بواقعية عمَّا أصابَ قيمنا من هشاشة وضعف بسبب مؤثراتٍ كثيرة داخليةً وخارجية، فثار أحد المشاركين معي في الحوار وتحدَّث قائلا: أن القيم العمانية أصيلة، وأنها عصيَّةً عن التاثُّر، وراسخة وعريقة وغير ذلك من الكلام الإنشائي المنقطعِ عن حالِ الواقعِ المعاش، أيَّ أنه كلامٌ حفظته الذاكرة، وحوته الكتب، فرددتُ عليه: بأن لا أحد هُنا يشكك في أصالةِ القيم العمانية وفي صلابتها، لكننا يجب أن نكون واقعيين في حديثنا عمَّا أصابَ قيمنا من تأثيرات عميقة أصابها بأضرارٍ جسيمةٍ تمظهرت في عدَّة صور من هشاشة البناء الأُسري، والعُرى المجتمعية، والأخلاقيات الشخصية والوظيفية، وضعف الإِنتماء الوطني، وتخلخل الهوية الوطنية وغير ذلك.
كل ذلك يُحتِّم علينا أن نقفَ حازمين صادقين بكل مسؤولية كي نواجه هذا التيَّار الجارف الذي غضَّ عنه النظرَ كثيرٌ من صنَّاع القرار، وقد بحَّ صوتنا ونحن ننبِّه إلى ما جرفه هذا التيَّار وما سينتهي إليه الحال، ويصيرُ إليه المآل، ولكن الإستجابةَ ضعيفةٌ إن لم تكن معدومةً للأسف، فلم يتبقَ لنا سوى المساعي الشخصية على ما تملكه من إمكاناتٍ متواضعة.
لنقرأ ما كتبه المفكِّر البحريني علي محمد فخرو في مقاله" الانتقال إلى الثورة في القيم" يقول: "ما يهمنا التأكيد عليه مرة ثانية هو أننا، نحن العرب، كأفراد وجماعات ومجتمعات، نواجه نفس المشهد في حياتنا اليومية. وأننا، نحن أيضا، لدينا فوضى في مرجعيات القيم وأولوياتها والمبادئ التي تقف وراءها وفي مكانتها في كل نشاطاتنا المادية والمعنوية. وهذا يستوجب أن يصبح هذا الموضوع أحد أهم مواضيع الساعة في الحياة الفكرية والسياسة والاجتماعية والثقافية العربية. وفي الواقع فإن مهمتنا مزدوجة ومضاعفة. فمن جهة علينا صدُّ الهجمة الثقافية العولمية الخارجية المليئة بمعاداة الكثير من القيم الانسانية وقيمنا، ومن جهة ثانية علينا معالجة ما اعترى قيمنا من أمراض وعلل واهمال بسبب تخلفنا الحضاري الذاتي عبر عدَّة قرون" ويوجِّه المفكر علي فخرو نداءً صريحاً لا مواراة فيه ولا مجاملة فيقول: "ولذلك يهمنا شد انتباه شابات وشبان الأمة، المناضلين من أجل احداث تغييرات كبرى في مجتمعاتهم المستقبلية، لأن يعطوا مكانة خاصة لموضوع تثوير القيم في مكونات وأهداف ومنهجيات حراكاتهم الجماهيرية المستقبلية".
إنَّ ما قالهُ هذا المفكر الحكيم هو عينُ المنطق الذي ندعو إليه؛ فالحفاظُ على القيمِ من المؤثرات ليس بإقامةِ أسوارٍ خرسانيةٍ صلدةٍ وإنَّما ببناءٍ قيمي عصيٍّ على المؤثرات، وأذكرُ هُنا أن شخصاً سألني حين عَلمَ أن ابني يدرسُ في مدينة مانشستر الإنجليزية: "هل وضعتَ له كاميرا في شقَّته لمراقبته؟"، طبعًا هذا السؤال يعبِّرُ عن عقليَّةِ الرجلِ السطحية، وتوهانهِ الفكري، وافتقاره إلى أُسس التنشئة الأُسرية، فأجبته: نعم وضعتُ له كاميرا ولكن ليس في شقَّته، وإنما في ضميره، فأنا قد أنشأته على القيم الكريمة، والخصال الرفيعة، فليس بحاجة إلى رقابةِ كاميرا؛ لأنَّه يملكُ ضميراً قيمياً قد أصبحَ هو رقيبه، ومرجعه، وموجهه.
حين أسمى أحد الأُخوة ابنته باسم برنامجي "قِيم"، شعرتُ بسعادةٍ كبيرة، وقلتُ في نفسي لو لم يحقق برنامجي إلَّا هذا لكفى، الشاهدُ من هذا كلُّه أن علينا واجباً فرضاً لا واجبَ كفاية في صيانة القيم، وما لم يكن صنَّاع القرار في صدارة الاهتمام والاعتناء فإن الجهود على صدقها وتفانيها ستظلُّ قاصرةً عن بلوغ أهدافها ومراميها، لكن ذلك لا يمنعنا من مواصلة جهودنا للحفاظ على قيمنا التي تشكِّل رأسَ مال هُويتنا، وقوامَ شخصياتنا، وأساسُ كياننا.