لستِ هنا!

 

فاطمة إسماعيل اليمانية

 

لا تسأل اليومَ عمّا كابَدَت كبدي... ليت الفراقَ وليت الحبَّ ما خلقا! (أبو البقاء الرّندي)

***

هذا الصباح المُخْتَلف.. صباح لا أراكِ فيه.. وأنتِ تقبلين مبتسمة وتلقين التحية بابتسامتك العذبة وعيونكِ الشاحبة من سهر ليل البارحة!

لأسألكِ:

  • كيف استطعتِ المجيء؟!
  • نزعتُ نفسي من الفراش نزعا!

فيمضي الوقت تقاومين النعاس؛ وتنغمسين في البرنامج اليومي المليء بالحصص والطالبات والحكايات التي كُنّا نهمس بها عن أدّق تفاصيل الحياة اليومية المملة الرتيبة!

والزميلات ينظرن إلينا دهشة من كمية القصص المخبأة، والتي لم نترك فيها لا شاردة ولا ورادة منذ بداية اليوم، وحتّى هذه اللحظة الحمقاء وأنا أتجرع مرارة فقدكِ.

  • ومتى لم أتجرع الفقد؟! وأنا التي خُلِقت من طينة الفقد والحزن!
  • والمظهر البارد!

الذي يوحي للآخرين بأنّ آخر ما أنتمي له هو:

  • الإحساس!

ذلك الشيء "المُهاجِرُ" الذي لم يُجِد الحضور إلّا وأنا أذرع المكان شبرا.. شبرا.. في آخر يوم لي.. وآخر نظرة للمكان!

والمُضْحِكُ المُبْكي أنّكِ كنتِ تشاطريني مراسم الرحيل خطوة.. خطوة!

كما شاركتني شعوري المخذول بالفرح.. بالأسى.. بالمرض وأنا طريحة الفراش أنتظر خبر الموت على مدار شهر كامل.. وكنتِ تنسلّين من مشاغلكِ وأعباء الحياة؛ لتلقين نظرة علي، ولتقولين لي:

  • أنا هنا!
  • لكنّكِ الآن.. لستِ هنا!

خاوٍ هذا الصرح الكبير بدونكِ.. والوجوه جميعها غريبة.. لا أعرفها! والنظرات تتلقفني ككائن فضائي لا ينتمي لهذا المكان بأيّ ِصَلة.. رغم ذلك أُغْرَقُ في نفسي.. مدركة أنّها أيام ستمرُ.. كما مرّت غيرها.. فأصبحت الأيام عقدا من الزمان!

كعقد العمل المبرم حول عنقي.. أسفا.. ووجعا.. ولم يصدقني والدي -رحمه الله- عندما قلتُ له معترضة على رغبته في التحاقي بكلية التربية:

  • أكره التدريس!
  • مهنة الأنبياء..
  • الأنبياء رجال!

فاستحضر جميع الكلمات والخطابات وأسماء العالمات والمعلمات وفضلهن ليقنعني أنّني صالحة للتدريس!

وأنا كنتُ أحاول إقناعه بأنّني صالحة للتهريج!

عندما كنتُ أخوضُ التجارب عابثة.. ضَجِرة من التعامل مع بعض الحمقى؛ ولأكتشف أنّي أكثرهم حمقا! وتهريجا!

لكنّ الستارة لم تغلق بعد! وكل ما قدرتُ عليه إغلاق ستارة مهرجاني اليومي في جهة عملي السابقة.. فأنتزع نفسي انتزاعا باحثة عن مبررات لا أساس لها:

  • هروب! تجديد! تغيير! رحيل!
  • تهريج!

نعم.. أنا من هذه الفئة المهرجة.. فئة الساخرات من أوجاع الحياة.. اللواتي يمتلكن قلما من أسى.. وينسجن صورة واحدة نمطية لبطلة القصص التي لا تجيد شيئا عدا الهروب..

وكم تمنيتُ لو كان الهروبُ سهلا كما يصوره مخرجو الأفلام.. وعندما أقرر الرحيل، أفتح الخزانة، وأنتزع قطعا قليلة من الملابس، وأحشرها في حقيبة صغيرة.. ثم يظهر مشهد آخر وأنا أسابق الآخرين في المطار.. ثم تطير الطائرة.. وينتهي كل شيء!

أو أربط صرّة في غصن.. وأمضي في طريق ممتد!

ينتهي في الأفق! رغم جهلي طبيعة الأفق! أو كيف تكون نهايته؟!

ببساطة شديدة.. أهربُ من صفحة.. أقتحمُ حاجز سطر! أتسرب من نافذة.. أنسلخ من جلدي وهويتي! أمزق نفسي كما أمزق هذه القصاصة التي وقعت بين أوراقي المبعثرة والتي كُتِبَ فيها السطر الأول من مرثية "العشاء الأخير" لأمل دنقل:

  • أعطني القدرة حتّى ابتسم!

لكنّي لم أستجدِ أحدا لأبتسم! لم يسبق أن طلبتُ من أحدهم إضحاكي! أو إثارة سعادتي! بل أعتبرها معاطب نفسية! لأنّي لا أدركها! لا أعي معنى الأمن؟! السلام؟! الهدوء؟! أن تستيقظ لتستقبل يوما مشرقا مبهجا دون نغص؟!

حتى هذا اليوم الذي قررتُ فيه أن يكون بداية جديدة؛ تفاجأت بعصفور نازف يطرق النافذة القريبة من طاولتي..

كان ينقر الزجاج؛ ليذكرني بسرٍ يتيم لم أخبركِ به..

عندما حاولتُ يوما ما إنقاذ فرخ من شغب أطفال الحارة، وركضتُ خلفه لالتقاطه، فدخل تحت قدمي خِلسة؛ لأدهسه، وأحمل أشلاءه!

ولأسمع شقيقتي ساخرة:

  • كلُ ما تحشرين فيه نفسكِ.. يتدمر!

ولم تكن تفهم بأنّها أطلقت كلماتها كرصاصة استقرّت في قلبي، بل لعنة أشبه بلعنة الساحرات وتعويذاتهن السافرة!

لذلك كنتُ أخشى البقاء أكثر! ومتى لم أخشَ البقاء؟

أو مواجهة سيل الذكريات الذي يعصف بي الآن؟ فأبحث في الوجوه عن وجه يشبهكِ؟ وجه مألوف؟ وروح تشعرني بالأنس في هذا المكان الموحش؟! رغم محاولة الزميلات الجديدات كسر حاجز الصمت معي؛ فيتراجعن خائبات.. ظنّا منهن أنّني لا أجيد الحديث!

وأنا فعلا لا أجيد الحديث؟! ولم يحدث أن تحدثتُ مع شخص آخر غيركِ دون وضع اعتبار لما سأقول؟ أو دراسة الكلمات قبل التلفظ بها؟!

لاعتقادي أنّ الحواجز مع الغرباء مطلب أمنيّ خاص بي.. ليستمر هدوئي النفسي والعقلي قدر الإمكان طوال اليوم! بعد أن تلفظتُ يوما ما أمام زميلة لها وعي بالثرثرة! فقلتُ مازحة بعد اصطدام يدِ زميلة بكوب قهوة على طاولتي لم تنتبه لوجوده، مما أفسد الأوراق المبعثرة، وتناثرت قطرات منه على ملف أوراق الاختبار الموضوع بحرص وسرية ليست تامّة! في ملف بلاستيكي شفاف يكشف عمّا بداخله:

  • حادث!

فانتفَضَت مرعوبة، أو تتصنع الرعب من هول الكلمة! وقالت بعيون جاحظة:

  • حادث.. حادث! أين وقع الحادث؟!

أتذكر أنّني حدقتُ طويلا في وجهها.. وأشرت للطاولة.. وللضحايا من الأوراق المتناثرة على الطاولة الغارقة في دماء القهوة! فاكتشفَت أنّها أساءت الفهم، لكنّ اعتقادها بأنّها أنثى حسّاسة رقيقة تذهلها هذه الكلمات البَشعة:

  • حادث.. موت.. دماء!

جعلها تردح طوال اليوم على رأسي، وتخبر كل من في المدرسة عن عملية ترويعي لروحها الآمنة المطمئنة.. وكيف أنّني أثرْتُ رعبها وأعصابها، واعتقدتُ أنّ حارس المدرسة الوحيد الذي لم يسمع بالخبر! لتقف عند باب الحارس قبل خروجها من البوابة الرئيسية بعد انتهاء ساعات العمل.. وتخبره القصّة!

لكنّه لم يفهم شيئا مما تقول.. واكتفى بابتسامة.. وغادرَت المكان لتخبر عائلتها.. وكل من تعرف عن تأثير كلمة "حادث" في مشاعرها الرقيقة!

رغم ذلك أرسلت لي رسالة في المساء تعتذر عن جميع ما حدث منها، لأضطّر للردّ عليها، وأنا التي تكره الردود على مواضيع في مثل هذا المستوى، لكن حرصا منّي على إنهاء الموضوع، تمالكتُ نفسي، وأجبرتُ أصابعي على كتابة كلمة واحدة:

  • انتهى!

نعم.. انتهى ذلك الموقف.. وانتهت غيره من المواقف الكثيرة التي مرّت مرور الكرام ليجود عليّ الزمان برفيقات العمر.. وزميلات عمل؛ بل أخوات رائعات، لم أشعر يوما أنّني بينهن كائن غريب، أو أنّ لغتي خاصّة لا يفهمها غيري! وأدركن أنّ تكراري لكلمة "مشغولة" تعني أنّني خارج التغطية! ولا أودّ الكلام.. وأنّ عبارة "لن أقوم بهذا العمل" تعني أنّني سأنجزه خلال نصف ساعة دون ضغط من أحد! وأنّ "تذمري" يعني أنّني أتحدثُ عن شيء آخر غير الموضوع المطروح للنقاش!

وأن الالتحاق في اجتماع المدرسة الدوري يعني أنّني لن أحضر هذا الاجتماع مهما كلفّ الأمر! ولم أحضر إلّا عددا بسيطا من الاجتماعات.. مضطرة.. مجبرة! تهربا من إزعاج أبشع سؤال في العالم:

  • أينَ أنتِ؟!

فأقضي دقائق قليلة أعبث بالهاتف.. أكتبُ في ورقة بيضاء ملقى بها كجثة تنتظر من يصلي عليها! ثمّ أنسل من وسط الحشود متعذرة باتّصال وهمي! أو مرحبة باتّصال إحدى شركات التأمين التي لا أردّ عليها غالبا! لأسألهم إذا كان لديهم خدمة التأمين ضدّ الاجتماعات في جهة العمل! كالتأمين ضدّ الحرائق، والحوادث، والأمراض المزمنة! وأتذكر جيدا أنّها قالت لي:

  • نقدم تأمينا ضدّ الأمراض المزمنة! والسرطان!
  • وأنتِ زعلتِ عندما عرفتِ بأنّي لستُ مصابة بأيّ مرض مزمن، وتتمنين لو يصيبني السرطان؛ لتثبتين صدق شركة التأمين التي تعملين بها؟!

ضحكت الفتاة.. وقالت لي:

  • لا قدّر الله!
  • بل آمني بأنّ جميع ما يحدث من تقدير الله عزيزتي.

(النهاية)

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة