تاريخنا في الذرة

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي

للإنسان رغبة جامحة وفضول كبير لمعرفة تاريخ أسلافه، ولذا فهو دائم البحث عن آليات وطرق تكشف له تاريخه وتلقي الضوء عليه، وظن الإنسان أن معرفة تاريخه يقتصر على ما تركه أجداده من آثار معمارية ظلت صامدة في وجه الطبيعة أو من خلال ما كتبه المؤرخون وخلفه أجداده من كتب وقراطيس تصف أحوالهم.

لكن لم يدر في خلد أحد من البشر أن يكون تاريخ كل واحد منِّا محفور في ذراته البيولوجية، فكل جزيء هواء يتنفسه يتحول لتاريخ محفور في جسده، يكشف للعالم عن تاريخ وفاته، فلقد تبين للإنسان أنَّ هذه الجزيئات هي ساعات طبيعية موجودة في كل كائن حي، فإذا كان القلب ينبض بصورة دورية منتظمة في حياة الإنسان فإن هذه الساعات تبدأ بالنبض عندما تتوقف دقات قلب الإنسان لتبدأ بحساب الزمن منذ أن تفارق الروح جسده، وهذا ما مكننا من استخدامها لمعرفة متى كان الكائن الميت حيًّا وبدقة عالية جدًا ما كنَّا نحلم بها.

فكما نعلم بأن المادة من حولنا بأشكالها المختلفة تتكون من عناصر، وكل عنصر يتكون من ذرات والتي تتكون من ثلاث جسيمات فقط وهي البروتون والنيوترون، ويكونان معا نواة الذرة وجسيم الإلكترون الذي يدور حول نواتها، والذرات التي تحتوي على نفس العدد من البروتونات تنتمي إلى نفس العنصر، وبعد البحث والتقصي تبين لنا أن الهيدروجين هو أبسط أنواع الذرات والذي يحتوي على بروتون واحد في النواة وإلكترون واحد يدور حولها. وهناك ما يُسمى بالديتيريوم ويُعد نظيرا للهيدروجين، وهو يحتوي على بروتون واحد في النواة تماما كالهيدروجين وإلكترون واحد يدور حول النواة، ولكنه بالإضافة لذلك فهو يحتوي على نيوترون واحد في نواة الذرة، فالنظائر هي ذرات من نفس العنصر؛ لأنها تحتوي على نفس العدد من البروتونات، ولكنها تختلف عنه بأن نواتها تحتوي على عدد مختلف من النيوترونات بينما يظل عدد البروتونات والإلكترونات ثابتا. 

وهناك نظير ثالث للهيدروجين يُعرف بـترتيوم، تحتوي نواته على نيترونين ومن أهم الفوارق بين الديتريوم والترتيوم إن الأول يُعد من النظائر المستقرة التي لا تفقد أيا من مكوناتها الموجودة داخل النواة، بينما الترتيوم يُعد نظيرًا غير مستقر ويسمى بالنظير المشع للهيدروجين.

فماذا نعني بالعنصر غير مستقر أو المشع؟

إن المقصود من ذلك أن هذا النظير يتحول إلى عنصر آخر، فالتريتيوم مثلا يطلق إشعاعًا معينا ومن ثم يتحول إلى عنصر آخر يُدعى الليثيوم، بعض هذه النظائر غير مستقرة تتحول بشكل سريع جدا، وبعضها يأخذ فترة طويلة لتتحول إلى عنصر آخر فمثلا يحتاج الترتيوم إلى اثنى عشر سنة ليتحول إلى عنصر الليثيوم.

ولا يوجد عنصر من عناصر الجدول الدوري إلا وله نظير، بعضها له نظير واحد، وبعضها له عدد من النظائر، كما يمكن تقسيم النظائر إلى نظائر مستقرة كالديتريوم وإلى نظائر غير مستقرة والتي تتحلل إشعاعيا إلى عنصر آخر كالتريتيوم.

وعندما ننظر إلى عنصر الكربون نجد أن هذا العنصر يحتوي على ثلاث من النظائر وهي الكربون ١٢، والكربون ١٣ والكربون ١٤، وهذه النظائر تختلف في عدد النيترونات فالأول يحوي على ٦ نيوترونات، والثاني يحوي على ٧ بينما الثالث يحوي على ٨ نيوترونات، والأرقام ١٢، ١٣ و١٤ تُشير إلى مجموع البروتونات (البالغ ٦ في جميع نظائر الكربون) مضافا إليها عدد النيوترونات ويُعرف هذا الرقم برقم كتلة الذرة.

يُعد الكربون ١٢ والكربون ١٣ من النظائر الثابتة للكربون، بينما يُعد الكربون ١٤ من النظائر المُشعة (غير مستقرة)، وتبقى نسبة الكربون المُشع ثابتة في الكائنات الحية، وفي توازن مستمر مع البيئة المحيطة. وعندما يموت الكائن الحي يثبت تركيز الكربون المُشع ويقل مع مرور الزمن وبتحديد تركيز الكربون المشع في عينة أخذت من رفات الكائن الحي يمكننا تحديد متى كان ذلك الكائن حيا.

وتعد دراسة التاريخ باستخدام الكربون المشع من أكثر الطرق موثوقية؛ فهي لا تتأثر بالسياسة ولا بأيديولوجيات المؤرخ، ولا تخضع لضغوط اجتماعية، ويمكن استخدام الكربون المشع كطريقة مثالية لدراسة آخر خمسين ألف سنة، بينما يعد التاريخ بعناصر أخرى كاليورانيوم والثوريوم والرصاص الطريقة الأكثر فائدة بالنسبة لآثار أقدم من ذلك، ويرجع الفضل في هذا الاكتشاف إلى العالم ليبي والذي حصل على إثره على جائزة نوبل عام،١٩٦٠وبذلك لم تعد الوثائق التاريخية السبيل الوحيد لدراسة التاريخ.

إن التحلل الإشعاعي ظاهرة منتشرة بين المعادن التي تظهر في الجدول الدوري بعد عنصر الرصاص، وبعضها يبقى لفترات طويلة للغاية، ويُقاس عمر العناصر المشعة عادة بما يسمى بفترة عمر النصف وهو الزمن الذي يحتاجه العنصر المشع لكي تنحل نصف عدد ذراته، وتنخفض فيه الكمية المشعة إلى النصف، بعض هذه العناصر تُعادل فترة عمر النصف لها عمر الكرة الأرضية، وبالتالي يسهل استخدامها كمقياس لمعرفة زمن حدوث الأحداث التاريخية على الأرض، فعمر النصف لليوارنيوم ٢٣٨ تبلغ حوالي ٤.٥ مليار سنة والذي يُعادل تقريبا عمر الكرة الأرضية، لذا فحوالي نصف اليورانيوم ٢٣٨ قد بقيت منذ نشأة الأرض، والنصف الآخر تحول إلى معادن أخرى، إذ ينتهي به الحال إلى عنصر الرصاص.

لقد فتحت لنا الذرات والنظائر الباب لدراسة التاريخ على مصراعيه، فلم يعد بإمكاننا دراسة تاريخ الإنسان فحسب بل مكننا ذلك من دراسة تاريخ الأرض والكون برمته.

كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

لمزيد من المعلومات حول الموضوع يمكنك الرجوع إلى:

•       Rob Ellam, Isotopes: A Very Short Introduction

الأكثر قراءة