للأزمة فوائد.. لكن دروسها لم تُستوعب كاملة

 

د. عبدالله باحجاج

الصورة الذهنية للأزمات هي السلبية دائمًا، رغم وجود إيجابيات، وكبيرة أيضًا، ومصيرية كذلك، وهنا يستوجب تغيير الصورة الذهنية النمطية عن الأزمات من خلال قضية مُعاصرة، شهدت مفارقتين من العيار الثقيل، ومن قبل الشخصيات ذاتها غالباً، وفي فترة زمنية قصيرة نسبيًا، وكل مُفارقة تناقض ذاتها، وهي شبيهة بعدم الإيمان بالشيء، وفجأة يتحول إلى العكس، وهذا ينطبق على قضية الزراعة في النجد بمُحافظة ظفار، وهي تعلمنا الكثير من الدروس الوطنية، فما هي دروسها؟ وهل نستفيد منها الآن؟ وما هي الاستدلالات في حالتي السلب والإيجاب؟

بالأمس القريب جدًا، كان التوجه المؤسساتي هدم مزارع المُواطنين في النجد، واليوم يتحول التوجه بالدرجة المئوية الكاملة، من هدمها كفكرة وتطبيق، إلى بقائها ودعمها، وفيهما تكمن المفارقتان، والسبب في كلتا الحالتين واحد، هو، جائحة كورونا، فهي التي أوقفت الهدم منذ بدايته، بعيد انتشارها في بلادنا، ولولاه، لربما كانت المزارع قد هدم معظمها أو الكثير منها، وهذه المفارقة الأولى. أما الثانية، فنجدها في السبب نفسه، فكورونا الآن أيضًا، وراء تحريك ملف الزراعة في النجد بعد أن أغلقت حدود الدول بعد اجتياحها إلى داخل حدودها، فعندها ظهرت أهمية الأمن الغذائي لكل دولة، ومن بينها بلادنا.

وبرزت النجد في مُحافظة ظفار في ذروة غلق الحدود وحتى الآن، يمنحنا قوة الأمن السيكولوجي، وقوة الأمان الاجتماعي لتأمين غذائنا محليًا، في وقت ارتفع قلق الدول الإقليمية على لقمة مجتمعاتها إلى الحناجر، وكان المزارعون العمانيون في مستوى التحدي، فرفعوا الإنتاج الزراعي، وتنوعوا فيه، وانتقلوا إلى زراعة محاصيل استراتيجية، أبرزها القمح، بحيث يوجد عدة شركات تنتج القمح، وصل حجم مساحة إنتاجها أكثر من 1500 فدان- تناولتها في مقالات سابقة- وهذا في حد ذاته رقم كبير بكل المقاييس بصفته المجردة، فكيف بإنجاز توقيته المتزامن مع تداعيات كورونا، وأغلبها بإمكانيات مواطنين متواضعة، أرادوا أن يثبتوا لوطنهم، وقد نجحوا فعلاً، في إظهار مدى قدرة المواطن على تحدي الصعاب، وأنه جدير بالثقة، وليس هناك أصعب من زراعة صحراء الربع الخالي في ظروفها المناخية والبيئة المتقلبة، والمكلفة ماليًا، ومن قبل مواطنين، مصدر تمويلهم البنوك فقط، وفي زمن كورونا.

لم يتركوا لغيرهم من أعذار سوى الانصياع لإرادتهم الجبارة، وإنجازاتها الزراعية العظيمة، زمانًا ومكانًا وتوقيتًا، بحيث وصل فائض منتوجاتهم الزراعية إلى كل دول مجلس التعاون الخليجي، ويكفينا فخرًا شعار "زُرع في سلطنة عُمان"، ونفتخر بإرادة الشباب الصلبة التي كانت ترى ما لا يراه فاعلون حكوميون، فصمودًا طويلًا، وحتى لما بدأت الجرافات تهدم مساحات من بعض مزارعهم، كان إيمانهم قويًا ببقاء مزارعهم رغم حدية وقسوة الخطوة التنفيذية، وما وراءها من فكر جامد لم يكن حتى يسمع للفكر الآخر، وقد كانت قضية الهدم تفتح خياراً صعبًا، قد يكون له تداعيات كبيرة الآن.

ويحتفظ لهم الوطن، بهذه المواقف الإيجابية، ويحفظ لهم إنجازاتهم الزراعية قبل كورونا وأثناءه حتى الآن، ويحتفظ لهم كذلك، بأنهم أول من فتحوا أمام الشركات الحكومية والخاصة الضخمة المشتغلة في الأمن الغذائي أبواب الزراعة في النجد، وآخر هذه المشاريع الكبيرة، منح شركة مؤخراً، مساحة وقدرها مليون متر مربع لإقامة مجمع متكامل للزراعة والثروة الحيوانية..بحيث يمكننا القول الآن، بأنهم وراء صناعة القوة السيكولوجية في لقمة غذائنا في زمن كورونا، ووراء الرهانات الوطنية للأمن الغذائي في منطقة النجد.

ولهذه الدواعي، قام مؤخرًا أربعة وزراء بزيارة لمنطقة النجد، وافتتاح مكتب تطوير منطقة النجد الزراعي في سيح الخيرات- أي في المنطقة نفسها- ومنح هذا المكتب مهامًا كبرى، مثل تنظيم وإدارة منطقة النجد، ورفع العائد الاقتصادي للمزارعين، وتقليص الفجوة الغذائية في الأمن الغذائي للسلطنة، وتفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص لإنشاء مشروعات مجدية، وإشراك الجمعيات الزراعية في البرامج والسياسات لتعظيم الفائدة.

هذه جهود مشكورة ومُقدرة، لكننا لو وقفنا عند منطوق تلك المهام وغاياتها، سنجد أن استمرار أسعار إيجار الأراضي الزراعية في منطقة النجد لا ينسجم مع تلك المهام، ولا يتناغم مع رهانات الدولة على منطقة النجد الزراعية، فهي تعجيزية، وفوق قدرات المزارعين، وتحمل تناقضات العدالة والمساواة مقارنة بأسعار إيجار الأراضي السياحية والسمكية والتجارية، فمثلاً: سعر إيجار الفدان الزراعي الواحد 50 ريالاً سنويًا حتى لمئة فدان، وما زاد عن المئة، يدفع المزارع 5 ريالات عن كل فدان، وهذا السعر بحسبته الغريبة والعجيبة، تحمل المزارعين الآلاف من الريالات السنوية حسب مساحة مزارعهم، وهذا تعجيز. في حين أن سعر الفدان للأسماك 4 ريالات، وسعر الفدان للأرض السياحية  200 بيسة للمتر المربع سنويًا، والفدان يساوي 4200 متر مربع.

لن نخوض في المقارنة السعرية بين الزراعة في النجد مع كل القطاعات الأخرى، ولا بين الزراعة في النجد والزراعة في المناطق الأخرى، لا من حيث بعدها أو قربها من الخدمات أو من حيث طبيعتها المعقدة ومناخاتها وبيئتها القاسية.. حتى لا نستهدف المساس بالتقدير المعتبر لها، وإنما سنركز مقارنتا على سعري حق الانتفاع بالأراضي السمكية ومقارنتها بالزراعية، وذلك لأبين التناقض المؤسسي من جهة، والفارق الكبير في سعر إيجار الأراضي الخاصة بهما من جهة ثانية، من هنا أقول، إنه ليس من العدالة، مساواة سعر إيجار الأراضي الزراعية في النجد، بنظيراتها الأخرى رغم أنها قليلة المساحة، فالسعر غير عادل، وخال من أية تقديرات للأمن الغذائي العماني، ولا لنجاح الشباب المستدام في استزراع صحراء الربع الخالي.

وهذا السعر المركب، والمرتفع عالياً للأراضي الزراعية في النجد، هو من نتائج فكر هدم المزارع، لذلك، فطبيعة المرحلة المتجددة، تحتاج لسعر جديد يعكس فكر بقاء المزارع وأهدافها الوطنية العليا، فهل نراهن هنا على دور مكتب تطوير منطقة النجد الزراعية؟ فقد اختير له المكان المناسب، والشخصية المحلية المناسبة، وينبغي أن يعملان على حل إشكالية السعر المرتفع، كما أن السعر الجديد، ينبغي أن يعكس وحدة السلطة لقطاعي الزراعة والأسماك، وهي وزارة الزراعة والثروة السمكية وموارد المياه، وليس بين سعري إيجار الأراضي السمكية والزراعية من تناغم وانسجام مقبولين في ظل هذه الوحدة الحكومية.

المساواة واجبة هنا، وتكمن في جعل سعر إيجار فدان الأسماك مساويًا للفدان الزراعي، وهو 4 ريالات، وقد قدرته الوزارة للأراضي السمكية، فكيف لا يكون كذلك في جناحها الثاني، وهو الزراعة؟ فطيرانها بجناحين مختلين في التقدير، يحمل مسؤوليها على المساواة بعد أن أعيد الاعتبار والتقدير للزراعة في النجد، وأية أسباب قد يلوح بها المسؤولون في الوزارة في قضية سعر الأراضي الزراعية في النجد، كتطبيقه على كل الأراضي الزراعية في البلاد، فهنا مساواة غير عادلة، كما أشرنا سابقًا، أو كإثبات جدية كل مزارع، فهذه الآلية لن تنفذ لمبتغاها، وإنما ستودي إلى وقف مسيرة الكثير من المزارع الناجحة؛ لأنها رسوم تعجيزية، وستؤدي إلى إغلاق الكثير من المزارع التي هي بمثابة مؤسسات صغيرة ومُتوسطة، وبالتالي، فهناك الكثير من الأسر ستتضرر، وستتعمق أوضاعها في ضوء التعقيدات المالية، وإشكالياتها الحياتية الناجمة عن السياسة المالية والضريبية للحكومة.

واستمرارية سعر الانتفاع للأراضي الزراعية في النجد، وعدم التقدير الملوس "المرتقب" لتسعيرة الكهرباء الزراعية سيكونان عاملي هدم لجهود المواطنين التاريخية التي كانت السابق في استكشاف زراعة النجد، والنجاح فيها منذ الثمانينيات من القرن المنصرم، وخروجهم بهذين العاملين، سيفسر عن أنهما مصطنعان لحصرية المنطقة الزراعية على الشركات الزراعية الكبيرة الحكومية والخاصة، كما إن التمسك بالسعر لحق الانتفاع/ الإيجار أو تسعيرة الكهرباء المرتفعة، مبرران كافيان لإنتاج ذلك الفهم، علمًا بأنه يحق للجهات الحكومية منح المؤسسات الصغيرة والمتوسطة استثناءات، ومن هذا القبيل يمكن تمرير إعادة النظر في أسعار حق الانتفاع والكهرباء.