تفصيل الدين

 

د. صالح الفهدي

 

عَجبتُ لأُناسٍ يفصِّلونَ الدين حسبَ أُسلوب حياتهم، فكيفما كانت حياته كانَ الدِّين على مقاسها، ومزاجها، وأُسلوبها؛ فهو إن كان يعيشُ بأُسلوبٍ معيَّنٍ قوَّى الضعيفَ من الأسانيد، وضعَّف القويَّ منها، وبترَ تفاسيرَ الآيات عن شموليةِ معانيها، ومغزى دلالتها، فإذا تغيَّر حالهُ أصبحَت الحجةُ الضعيفةُ بالأمس قويَّةً عنده اليوم، والبرهانُ الساطعَ بالأمس، بهتَ سطوعهُ اليوم، وتوسَّعت بصيرته لترى معاني الآيات الشاملة أكثرَ مما كانَ يرى عليه بالأَمس..!

صحيحٌ أن الإِنسانَ قد يتغيَّرَ فكرهُ من حالٍ إلى حال، وتتبدَّل قناعته، لكن أن يفرضَ فهمهُ للدِّين على غيره فهنا تقعُ المعضلة، ولو كانَ الأمرُ مقتصراً على نفسهِ فقط لكانَ ذلك أهون. كم هم الذين حرَّموا على الناس أموراً كثيرة، وأفتوا فيها بالحرمة المطلقةِ على الناس ليس لأن الدينَ كان كذلك بل لأنهم أرادوا أن يطوِّعوه لمذاهبهم، وأساليبَ حياتهم، ثم رآهم الناس وقد استحلُّوها لأنفسهم بعد فترةٍ من الزَّمن، وهنا أذكر تعليقاً لأحد الذين انجرُّوا وراءَ مثل هذه الفتاوى يقول وهو يخاطبُ بعض الدعاةِ وقد كانوا من الغلاة المتطرفين: "لقد حرمتمونا من أعزِّ ذكرياتنا التي تجمعنا بأعزِّ الناس لدينا، فحرقنا الصور التي كانت تجمعنا بهم، ثم ها أنتم تحلِّلونها بعد عقودٍ من الزَّمن حيث لا رجعةَ لتلك الذكريات التي فقدناها"..!

ويقفُ آخر ليبكي في برنامج "علَّمتني الحياة" وهو نادمٌ يتذكَّر كيف كان يفرضُ على أخواتهِ ما لم يوجبه الدِّين داخل جدران البيت بعد أن أُشْرِبَ أفكاراً متطرِّفةً تفصِّلُ له الديِّن حسبَ مزاجها، يبكي وهو يرجو أن يربِّي ابنته تربيةً فيها من الحبِّ والرفق والعاطفة والرأفة ما يجعلها تربية حسنة معتدلة.

ونعرفُ من كانوا على هيئةٍ معيَّنةٍ يظهرون بها للناس وذلك حقَّهم في الظهور، فلَّما نالوا ترقيةً أو مناصبَ رفيعةً لم يعودوا يظهرون بتلك الهيئة وكأنما كان الأمرُ عندهم مجرَّد مظاهر، وليس مبدأً راسخاً..!

من المؤسفِ أن يصوِّر البعضُ الدِّين للناسِ كما يرونَه هم ضيِّقاً، خرسانيَّ الجدران، لا كما هو في سعته، وسماحته، ولطفه، من أجلِ تحقيق غاياتٍ يريدون تحقيقها، فإذا بهم يصدِّرون الأحاديثَ الضعيفة ويبرزونها حججاً لأفهامهم، وإذا بهم يتبنون التفاسيرَ المبتورة لآيات من القرآن فلا يفهمون المغزى العميق منها، والحكمة التشريعية من ورائها، في حين أن الدين واضحٌ في أُصوله، مختلفٌ في فروعه، وهذه هي السَّماحةُ والسَّعة التي قالها عنها المصطفى عليه الصلاة والسلام:" إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا"(أخرجه البخاري)، وقال:"إن هذا الدين متين فأوغلْ فيه برفق، ولا تُبَغِّض إلى نفسك عبادة الله؛ فإن المُنْبَتَّ لا سفرا قطع، ولا ظهرا أبقى"(السنن الكبرى).

ذات مرَّةٍ وصلني حديثٍ معيِّنٍ، وفورَ قراءته رَدَدتُ على من حَوَّلهُ بأنَّه غيرَ صحيح، ويجافي منطق الدِّين، وقد وضعَ من أجلِ إحكامَ ممارسةِ سلطةٍ رجالية على النساء من خلال تطويع الدين باختراعِ أحاديث لا صحَّةَ لها..!  

من هنا نقول بأنَّهُ إذا كان فهم البعض للدين فهماً ضيِّقاً فتلك معضلة، لكنَّما المعضلة الكُبرى هي أن يفرضهُ على المجتمع، بل وأن يصنِّفَ هو بنفسه من لا يمضي على منهجه بالعاصي أو الكافر أو غير ذلك..! لقد صادروا الدين فجعلوه حكراً لهم، وحرموا عقول العباد من مجرَّد التفكير أو التصريح في مسألةٍ في الفروع فيه. ذات مرَّة كتبتُ مقالاً عن المصالحِ المرسلة، فإذا بأحد المنتمين إلى بعض الحركات التي تحتكرُ فهم الدين لنفسها يردُّ عليَّ: ما دخلُك أنتَ في الدين؟! وكأنَّما قد ملكَ هو حقَّ الحديث عن الدين وليس لعبادِ الله حقٌّ فيه، وهذا مناقضٌ لوصية النبي صلى الله عليه وسلم لرجلٍ إسمه وابصة بن معبد بقوله:"يا وابصة، استفتِ قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأنَّ إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك(الألباني).

خلاصةُ الكلام أنَّ دينُ الله واضحةٌ أُصوله، لا يحتكم في ما اخْتُلِفَ من أحكامه إلا لدى العلماء الجهابذة المطلعين على الآراء المختلفة فيبنونها ويبيِّون رأيهم الموافقَ أو المخالفَ لها. أما تفصيلُ الدين على الأمزجة، أو حسبَ أُسلوب الحياة الذي يعيشه البعض فذلك أمرٌ لا يجبُ فرضه على الناس، فدينُ اللهِ واسعٌ، بيِّنةٌ أركانه، واضحٌ بيانه، لا يحتكرُ أحدٌ فهمه، ولا يصادره أحدٌ عن أتباعه، وإنَّما هو الاجتهاد الحسن، والكلمة الطيبة، وحسن الظن، وصدق النوايا "وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ"(التغابن/4).

يجبُ أن يعي كل مسلم أن الاختلافَ في فروع الدين أمرٌ يدلُّ على لينهِ وسماحته، ومن هنا جاءت القاعدة المأثورة"اختلافُ العلماء رحمة" فلا تفصِّلوا الدِّين لأنكم تعيشون أُسلوباً معيناً وتريدون تطويعه لهذا الأسلوب، بل وتفرضونه فرضاً على الناس بحجة أن أسلوبكم هو الأُسلوب الأمثل، بل تساموا إلى حكمةِ شريعته، وقربوا عباد الله من دينِ الله بالتيسير والتبشير.