الأضرحة والقبور في ظفار

 

خالد بن سعد الشنفري

 

قلَّ أن تجد في رقعة جغرافية صغيرة (شريط الساحل والجبل) من ظفار لا يتجاوز طولها 200 كيلومتر تقريبا، من حاسك شرقا إلى رخيوت غربا، هذا العدد من الأضرحة والقبور لأنبياء وأولياء ربانيين صالحين.

والمقولة المتداولة في ظفار منذ القدم أن ظفار "مشحونة بالأولياء والصالحين"، دليلٌ على هذا وبدءًا من قبر أو ضريح النبي صالح بين سدح وحاسك وقد ذكره ابن بطوطة في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" خلال زيارته لظفار البليد، وقبر الصحابي الجليل زهير بن قرضم بمرباط، وقبر العالم الرباني الصوفي محمد بن علي (راعي مرباط)، وقبر (القلعي) العالم الفقيه وأحد اتباع الإمام الشافعي، والشيخ العفيف (راعي طاقة)، وعابر بن هود بمنطقة حمران بين أرزات وطاقة، وهود بن عابر بمنطقة شيحيت بالجبل الأوسط، والسامري بقرب البليد مرورًا بصلالة؛ حيث الكثافة في عددها كقبر أو ضريح النبي أيوب في جبل أتين، وقبر (بن عربية) في ريسوت، والنبي عمران في الحافة الجديدة ودحقة ناقة النبي صالح.

في صلالة الوسطى جامع الشيخ الجليل أحمد العفيف الذي شيده في العام 652 هجرية (توجد أيضا عدة مساجد تاريخية قديمة تحمل اسم العفيف) في كل من الحافة وعوقد وغيرها، وكلهم شيوخ علم ربانيين، انتشروا من قرية الرباط وتوزعوا لبناء مساجد في أرجاء مختلفة من ظفار، وإمامتها والخطبة والتعليم بها، وقبور معظمهم بجوار هذه المساجد وهم أحفاد الشيخ الرباني الجليل العارف بالله سعد المشيخي (تاج العارفين) مُؤسس دار أو قرية الرباط الشهيرة، كما يطلق عليها، والتي تقع بجوار قصر الرباط حاليًا، وأخيرًا- وليس آخرا- حوطة بن عثمان في رخيوت، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، وغيرها الكثير.

الملاحظ أنَّ معظم هذه القبور، عدا قبور أو أضرحة الأنبياء ما قبل الإسلام، يتجاوز تاريخ بعضها الألف عام، وأقلها 400 سنة وأكثر، وتقع بجوار المساجد التي أسسوها وكانوا يؤمون الصلاة فيها وإلقاء خطب الجمعة، ويقيمون الدروس الدينية لمرتاديها. وقد قبَر الناس بعد ذلك موتاهم بالقرب منها، تبركًا بهم، حتى أصبحت مقابر عامة ورئيسية مثل مقبرتي صلالة الغربية والوسطى الموغلات في القدم، ومقبرة مرباط، ومقبرة طاقة، ومقبرة الدهاريز، ومقبرة عوقد، وغيرها.

لطالما كان لهذه الأضرحة والأربطة الدينية دور كبير في حياة الناس؛ لوجودها بينهم، فتذكرهم بالله والآخرة، وقد كان أصحابها أولياء صالحين مشهودا لهم، تعلقت حياتهم بالله، وأصبحوا قدوة يحتذى بها؛ لدرجة أن الناس أصبحوا يحلون خلافاتهم الشخصية فيما بينهم بأنفسهم عن طريق التراضي بأن يحلف المُتهم بحضور المدعي عليه بجرم ما أو معاملة مدنية ما لقلة التوثيق ويحضرون معهم بعض الشهود أمام هذا الضريح، ويقسم مدعو البراءة بالله تعالى، فهم يعتبرون هذا الولي الصالح شاهدًا عليهم أمام الله تعالى، ولا يحلفون أو يقسمون على القبر أو الضريح كما يُشاع؛ بل يقسمون بالله العلي العظيم بعدم ارتكابهم لهذا الجرم، وقد حصلت حالات حلف أناس ببراءتهم كذبًا أو زورًا وحدثت لهم ابتلاءات بعد ذلك، أو لأحد أبنائهم، ومنهم من أصيب بجذام لم يشفَ منه، وانتهت كثير من الخلافات بدون محاكم أو قضاة، ويتهيب الناس من الحلف إذا لم يكن من التهمة براء، وهذا دليل على تدين الناس والأجواء الروحانية التي تلبستهم وتعلقهم بالسماء وهم على الأرض، وهذا ما كان عليه مسلك وتاريخ هؤلاء الأولياء والصالحين الربانيين العارفين بالله وتاريخهم المكتوب منه والمروي والذي لازال الناس يتناقلونه أباً عن جد منذ مئات السنين إلى اليوم.

عندما قرر الملك أحمد بن محمد الحبوضي، تأسيس مدينة البليد مقرًا لحكمه عام 600 هجرية، طلب من الرباني الجليل سعد المشيخي (تاج العارفين) صاحب الرباط، أن يقوم بمباركة التأسيس للمدينة، وقام الشيخ بغرس 4 زجاجات في أرضية الأركان الأربع للمدينة ووضع بداخل كل زجاجة ورقة كتب عليها بخط يده سورة الإخلاص. وقد بلغت شهرة الرجل ورباطه الديني الآفاق حتى إنه عثر على بعض الأضرحة في رباطه بأسماء أناس من خارج ظفار، منهم على سبيل المثال عبد الملك العسقلاني الظفاري من عسقلان بفلسطين المتوفى في ظفار سنة 707 هجرية ووُضع له شاهد لمكانته العلمية والاجتماعية.

القبة والسلسلة أيضاً من الأضرحة التي يُقسَم عندها بالله؛ حيث المقبور بها بجوار جامع الشيخ أحمد بن عفيف بصلالة الوسطى، وأقدم مقابر صلالة مؤسس جامع الشيخ أحمد العفيف، وهو أحد أحفاد العلامة الرباني (تاج العارفين)، وقد شُيدت القبة بعد ذلك على قبر علامة ظفار من المتأخرين الحبيب السيد علي باعمر آل باعلوي الحسيني القرشي، ودفن بها عام 1093 هجرية، ومن بعده زوجته وبعض أبنائه من أهل العلم والصلاح، وبعض السادة الأشراف آخرهم العلامة الشيخ أحمد بن محمد القشاشي، الذي طلب منه السلطان تيمور تولي القضاء في ظفار، فوافق بعد أن تردد كثيرًا من قبل؛ لورعه. وفي وسط هذه القبة من الداخل سلسلة حديدية متدلية إلى الوسط (كانت على ما يبدو يعلق عليها زيت السراج) إلى اليوم، فسُمّيت بالقبة والسلسلة.

وبعد امتلاء مقبرتي صلالة وتوزيع الأراضي على المواطنين للسكن حولها بعد عصر النهضة، قررت بلدية ظفار- بالتشاور مع أهل الرأي- إقامة مقبرة صلالة الحالية قبل حوالي 30 عامًا (مقبرة الزاوية)، ولا شك أن اختيار المكان كان أيضًا لمكانته الوجدانية، فقد كان عبارة عن مزرعة أوقفتها الشريفة المحسنة فاطمة بنت عبد الله باعمر (حبوبة فاطمة) أوقفتها مع 3 مزارع أخرى مجاورة لمقبرة الشيخ العفيف بصلالة، وحفرت فيها آبار مياه وزاوية للسقيا، إضافة إلى خلوات لغسيل الأموات بمقبرة العفيف، وكان يُستفاد منها جميعًا من خارج صلالة، وهذا أيضًا دليل على تعلق النَّاس بكل ما له صلة بالجوانب الروحية والخير والصلاح.