الاستثمار الأصيل

د. صالح الفهدي

 

كنتُ في زيارةٍ لمعرضٍ فنِّي، حين سألني شابٌّ يعملُ في مقهى: بماذا يمكنُ أن تنصحني؟ فأجبته: سأنصحكُ بنصيحةٍ سمعتها صباح اليوم قبل أن آتي هُنا من الملياردير الأمريكي وارن بافيت، وأتفقُ معها وهي: "استثمر في نفسك"، فأنتَ إن استثمرتَ في نفسك استطعتَ أن تحوِّلَ هذه الوظيفة التي قد تنظرُ إليها أنتَ والكثيرون على أنها وظيفةٌ صغيرة، وضعيفة الدَّخل إلى وظيفةٍ كبيرةٍ، ذات دخلٍ عالٍ، لأنك حينها ستفكر على نحوٍ أوسع، وستمتلكُ رؤيةً ذات أهدافٍ، وتتسلَّحُ بالقدرات لتحقيقها.

من يستثمرُ في نفسه، يرفع قيمتها، ويُعلي قَدْرها، ويجعلَ لها شأناً ومكانة؛ ذلك لأنه ينقُلها من حالةٍ تفتقدُ فيها لعوامل التطوير إلى حالة تمتلكُ فيها المهارات اللازمة لإنتاجِ المعرفة، وابتداع الطرق الكفيلة للتطور، والتقدُّم، شأنهُ في ذلك شأن الدُّول التي تستثمر في أبنائها فتتحوَّل من دولةٍ خاملةٍ لا تعي الكيفية التي تتقدَّمُ فيها إلى دولةٍ نشطةٍ يقودها أبناءها إلى الريادةِ بفضل الإبتكار والاختراع.

تابعتُ لقاءً مع رجلٍ سعودي استثمر في نفسه لاكتساب مهارات، وتحسين مهاراته، بمبلغٍ مليونٍ ومائتي ألف ريالٍ سعودي، فأصبحت قيمة ساعة الاستشارة عنده باثني عشر ألف ريالٍ سعودي، ناهيكم عن القيمة العالية للدورات التدريبية التي يُقدِّمها..! يذكرني هذا الرجل بخبير الإدارة ستيفن كوفي الذي كان يتقاضى مبلغ 3 دولارات للكلمة التي يكتبها، ومبالغ ضخمة للاستشارات التي يُقدِّمها لكبرى الشركات العالمية. لقد أوصلهُ استثماره في نفسه أن يقول: "أنا لستُ نتاجَ ظروفي، أنا نتاجُ قراراتي"؛ لأنَّ الاستثمار في الذات ينتشلُ الإِنسان من إلقاء اللوم على الظروف، ويجعله حرَّاً في تفكيره، مستقلاً في قراراته.

يقول أحد الذين استثمروا في أنفسهم: "قد تفقدُ وظيفتك التي تعملُ بها، وقد تفقدُ أصولك المالية، وقد تفقدُ استثماراتك العقارية، ولكنك لن تفقد استثمارك في نفسك" ذلك لأن الإستثمار في الذات هو الشخصية التي يصيرُ عليها الإنسان، والتي تجعله قادراً على ترسِّم الطرق الكفيلة بصنع الإنجاز مهما كانت الظروف، وهُنا يتمايزُ الذين استثمروا في أنفسهم والذين أوقفوا أنفسهم عندَ حاجزٍ معيَّن ظنَّاً منهم أنَّهم قد استكفوا بما عندهم، وفي هذا يقول الأديب الإنجليزي جورج برناردشو: "الكثيرون يلومون الظروف، أنا لا أؤمن بالظروف، الناجحون في هذه الحياة يبحثون عن الظروف المواتية، فإن لم يجدوها صنعوها"، ولا يبحثُ عن الظروف، ولا يصنعها إلا الذين استثمروا في أنفسهم، فامتلكوا القدرة على التفكير المتميِّز، والإِبداع الخلَّاق، والتصرُّف الحسن.

أمَّا في مجتمعاتنا فقد سادت ثقافةٌ سلبيَّةٌ أنتجت كُثرةً تحسبُ أنها قد استثمرت في نفسها، بينما هي تكذبُ على نفسها، وتضلِّلُ ذاتها..! تسمعُ الغالبية يقولون: "لقد انتهينا من التعليم"؟! وهذه عبارةٌ أشبهُ بالحاجزِ الذي يُسقطهُ الإِنسان أمامه حتى لا يتقدِّم، يريدُ بها إقناعَ ذاتهِ بأنَّه قد (استحوذَ) على ما في التعليم من مضمونٍ وكأنَّما التعليم كأسَ لبنٍ يشربهُ، أو كأنَّما هو الوريقة التي نالها فأوهمتهُ أنَّه قد (أنهى التعليم)، وكأنَّما حفلة (التخريجِ) قد غرستَ في عقلهِ أنَّه قد (خرجَ) من صرح التعليم..!

ولعلَّهُ من النافعِ هُنا أن أُنوِّهَ بأنَّ كلمة (Graduation) بالإنجليزية تعني (التَّدرج)، بينما تُترجم إلى اللغةِ العربية (التخرُّج) وتطلقُ على حفلات التخرُّج، ومنها تنبثقُ مزاعم الأغلبية بكلمة (تخرَّجت)، ويمكننا ببساطةٍ أن نميِّز الفرقَ بين كلمتي (التدرُّج)، و(التخرُّج)، فالأُولى تعني أن سُلِّمَ التعليم مستمر، وأن المتعلِّم (يتدرَّجُ) فيه، أما الثانية فتعني أن سلَّم التعليم قد انتهى، وأن المتعلِّم قد (خرَجَ) منه!!

المستثمرون في ذواتهم، والعاملون على تطويرها لا يعترفون بعمرٍ، ولا بظروف، وإنَّما يعترفون فقط برغبتهم في أن يصبحوا أفضل، وأميَزَ، فيصنعون واقعهم بتغيير حالاتهم التي تتغير بالإستثمار في الذات.

يحكي ألفين توفلر قصة في كتابه "صدمة المستقبل"عن عاملٍ بسيط، فيقول: يقول ذات ليلة من ليالي الشتاء شهدت، وقد كنت أقدم برنامجًا عن علم الاجتماع في المستقبل، والحضور مجموعة تضم خبراء في التخطيط بعيد المدى، ومسؤولين في مؤسسات كبرى ودور للنشر ومراكز بحوث.. وكان كل شخص يشرح سبب التحاق بالبرنامج حتى جاء الدور أخيراً على ذلك الرجل دقيق الجسم، فوقف ليتكلم في إنجليزية رائعة -رغم نطقه المتكسر- فقال: اسمي شارلس ستين، اشتغلت طوال حياتي عامل إبرة.. سني الآن سبعة وسبعون عاما، وأريد أن أحصل على ما لم أحصل عليه في شبابي.. إنني أريد أن أعلم عن المستقبل، إنني أريد أن أموت رجلاً متعلماً"، وانتهى كلامه، لكنه بَقِي يرنُّ في آذان الحضور، لأنهم مصدومون.. ماذا يفعلُ عامل إبرة بين كبار المخطِّطين الإستراتيجيين، والمسؤولين في مؤسسات كبرى.. يقول ألفين توفلر:"سقطت كل دروع الدرجات العلمية وألقاب الإدارة والمراكز العليا"!

لن تنفع أصحابِ الشهادات العليا شهاداتهم، ولا أصحاب الألقابِ تبجُّحهم بألقابهم، وإنما ينفعهم الإستمرار في الإستثمار في أنفسهم، ذلك هو طريق التجدُّد، و(من لا يتجدَّد يتبدَّد)، وكما يفُرضُ على الطبيبِ والمهندسِ والطيَّار وكل صاحبِ مهنةٍ أن يتعلِّم حديث اختراعاتها، وجديدَ علومها، فإنَّ على كل إنسان أن يستثمر في ذاته لكي لا يقع في مصيدة التبدُّد، وفخ الخديعةِ بأنَّه نالَ ما يكتفي به من علم ومعرفة وخبرة..!

الاستثمار في النفس هو النمو الحقيقي للإنسان، فلا يتعلَّل دونَ ذلك إلاَّ عاجز، ولا يتعذَّرُ إلا خامل، أمَّا المستثمرون في أنفسهم فهو الرابحون الحقيقيون في هذه الحياة.