الخوف من العلم!

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي

 

يقال إن بعض الحقائق صادمة، ولكن تاريخ العلوم يقول إن أغلب الحقائق صادمة، فالملاحظ أن الإنسان خلال مسيرته الطويلة يُميل إلى إضفاء معان على الأشياء من حوله، فهو عندما ينظر إلى الطبيعة يحاول أن يفسرها بتفاسير معينة، مستفيدا من قدراته العقلية فيصنع لنفسه عالما معينا، ولكنه في بعض الأحيان وربما في الغالب يملأه بمعانٍ من خياله وطموحه، فيضفى على بعض الأشياء من حوله معان جميلة، ويعلق عليها آماله وأحلامه لا لشيء إنما لصدفة جمعت بين خير أصابه وبين وجود ذلك الشيء بين يديه.

وينظر إلى أخرى فيضفى عليها من الشرور ما ليس فيها، ولا ذنب لها سوى الصدفة التي صادفت أن أصيب بسوء وهو ينظر إلى ذلك الشيء، ومن ثم ولسبب ما يؤمن أشد الإيمان بصحة وأهمية تلك المعاني التي أضافها على الشيء، ومع مرور الزمن تتوارثها الأجيال، و تزداد تلك المعاني قيمة وتشتد رسوخا، ولكن هذا الإنسان عندما وجه بوصلته نحو العلم والمعرفة اصطدم بحقيقة مرة،  فقد انهارت الكثير من المعاني الجميلة التي أضافها على بعض الأشياء من حوله، فما كاد يصحو من صدمة إلا وتلتها ثانية أشد قسوة وضراوة، فبات البعض منا يخاف من العلم ومن ثورته!

لقد تبين للإنسان أن المعاني التي أضافها إلى بعض الأشياء من حوله ما هي إلا من نسج خياله لا واقع لها فالأجرام السماوية والتي كان أرسطو يُعبر عنها بالعالم العلوي، وتحمل قداسة وهيبة كبيرة في نفوس البشر ماهي إلا أجرام كالأرض تسبح في هذا الكون، وتدور حول الشمس بل هي أسوء من كوكبنا فلا تصلح للسكنى ولا أثر للحياة فيها، فهي تلفظ كل أنواع الحياة وترفضها، وبذلك انهارت تلك الهالة والقداسة التي كانت تصاحب الإنسان منذ الأزل، وهي ينظر إلى هذه الأجرام السماوية ظنا منه بأنها الهدف المرتجى وأنها أرض الخلود والملأ الأعلى.

حتى القمر بجلاله وجماله لم يعد قمرًا يمثل جمال الفتاة ووجهها الوضاء ولا قبلة العشاق والحالمين، فالقمر أرض جرداء وصحار قفار، فكل شعر الغزل الذي أبدعه الشعراء هو من نسج خيالهم لا حقيقة فيه ولا واقع له.

أما النجوم التي كانت تغري الإنسان الأول بلمعانها وضوئها المُبهر فتبين أنها أجرام سماوية ملتهبة فهي ليست مقرا للجنان والفردوس الأعلى، بل هي جهنم بعينها لا تبقي ولا تذر، وهكذا بدأت المعاني التي أضافها الإنسان إلى الأجرام السماوية تنهار واحدة تلو الأخرى. فالنجوم نيران ملتهبة والكواكب والأقمار أراض قفار لا شجر فيها ولا ماء.

لقد كانت هذه الحقائق صادمة بحق، فلا شيء أصعب على الإنسان من أن ينتزع معان أضفاها على أمور معينة تبينت له لاحقا بأن تلك المعاني لا أصل لها، وأنه هو من أضفاه عليها، ولذا فقد رفض الكثير من البشر التصديق بها؛ بل إن بعض بعض القساوسة والكهنة رفضوا النظر في منظار جاليليو ليرو القمر بصحاريه وأرضه الجرداء، فتلك ليست نظرة عادية بل نظرة ستهوي بقمرهم إلى قعر سحيق لا قاع له وتجرده من كل المعاني التي أضافوها عليه.

ولم يقتصر الأمر على النجوم والأقمار التي كان يبصرها الإنسان ولا يصل إليها بل حتى الأرض وما عليها والتي كان يظن الإنسان بأنه قد تمكن منها، وإذا به يخيب ظنه ويتراجع للوراء وهو يكتشف حقائقها وأسرارها، فالزئبق هذا السائل الساحر، الذي يطرد الأرواح الشريرة تبين للإنسان بأنه معدن بسيط لا يملك حولا ولا قوة، ولا علاقة له بتلك الأرواح الشريرة، بل تبين بأنه يسبب لنا المرض والموت وعلينا أن نجتنبه ونحذر من التعامل معه.

والياقوت الأحمر كان البعض ينسبه إلى دم الآلهة كما تحكي الأسطورة الهندية، فقد نتج عن تساقط قطرات دم الآلهة في النهر واحتضنت المياه العميقة هذه الدماء لتتحول إلى أحجار الياقوت الأحمر، ولكن الأمر تغير الآن وما عدنا نحتاج إلى دم الآلهة لنهرقه فالعلم كشف بأن هذه الياقوتة الحمراء مكونة من مادة تعرف بأكسيد الكروم‘ ويضاف إليها أكسيد الألومنيوم، ولذا يمكننا أن نصنعها في المختبرات بسهولة ويسر.

وبعض الشعوب كانت تقدس الفضة، فكانوا يرمون بقطع منها في آبار الماء لتحميهم من الأمراض. وتبين لاحقا بعد التطور العلمي بأن الفضة ليست مقدسة بل تمتلك خواص فيزيائية تستطيع من خلالها القضاء على الجراثيم فيكفي إضافة كميات بسيطة للغاية منها لتعقيم لتر كامل من الماء.

إن الدرس الكبير الذي يجب أن نتعلمه مما تكشفه لنا العلوم بأن نراجع أفكارنا، ونتحقق من تلك المعاني التي أضفناها على الأشياء من حولنا، فلعلها من نسج خيالنا، فلقد تعلمنا بأن الإنسان يتفنن في إضفاء معان على الأشياء من حوله من خلال تجربة حسنة وأخرى سيئة، فيرفع من قيمة الأولى ويحط من قدر الثانية وكلاهما في الأصل سواء.

كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس