ليعلم كل موظف

د. صالح الفهدي

سَألَ مسؤولٌ في إحدى شركات صناعة الطائرات عاملاً بسيطاً كان يصنعُ مساميرَ للطائرات: ما هو عملك؟ أجاب: أصنعُ طائرات، فالطائرات لن تقلع إلَّا بهذه المسامير. ومثلهُ عامل قطع الحجارة الذي سُئل عن عمله فقال: أبني صرحاً ضخماً، وعلى سياقِ كلامهم يفترضُ على كلِّ موظف مهما كانت وظيفته أن يجيب إن سُئل ما هو عمله: أبني وطناً.

ومن هُنا ليعلم كل موظف بأنَّهُ لا توجدُ وظيفةٌ مهمةٌ أو غير مهمَّةٍ فكلُّ وظيفةٍ وُجِدت لحاجةٍ أحدثتها، وضرورةٍ أوجدتها، وأنَّ عمله مهما صَغُرَ فإنَّ أهميته تكمنُ في قيمة ما يقدِّمه لبناءِ وطنه، وعلى ذلك يجب أن لا يستحقرَ وظيفته، ولا يستخفَّ بعمله، ولا يقلِّل من إنجازه، فكل ما يقوم به إن توقَّف فإنَّ خللاً ما سينشأ في منظومة العمل بحالها، وفي مسيرةِ الوطنِ بأَسره.

ليعلم كل موظف قد أمضى توقيعهُ على عقدِ عملٍ قطعَ بموجبهِ عهداً أمام الله أولاً قبل البشر، وبذلك قد أُمِّن أمانةً من اللهِ عزَّ وجل، وأنَّ أيَّ إخلالٍ بهذه الأمانة إنما هو تهاونٌ في أمانته مع الله، القائل: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"(النساء/58) والأمانة ليست وديعةً ماديةً فقط، بل هي وديعةٌ معنويةٌ أداؤها يعني القيام بها بمقتضى العهد والميثاق، فإن أدَّاها على أكمل وجهٍ أرضى الله وأرضى من أئتمنه عليها، وإن فرَّط فيها أخرجهُ ذلك التفريط من دينه، لقول الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام:" «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» وتلك خسارةٌ فادحةٌ لا يعوِّضه مكسبٌ عنها.

ليعلم كل موظف أنَّه قد وُجدَ لخدمة مصالح وطنٍ بأسره، فإن هو وعى ذلك، وفهم وطبَّق، فقد رشدَ إلى الهدف الأسمى، وإن هو أغضى طرفه، وتجاهل، فقد ارتكبَ إثماً مبيناً في حقِّ وطنه الذي منحهُ شرف خدمته فقابله بالتساهلِ والتجاهل.

ليعلم كل موظف أنه لم يكن ليكون في وظيفته تلك، ولم يكن ليكسب رزقه ومعاشه من تلك الوظيفة إلاَّ لخدمة مصالح الناس، وقضاء حاجاتهم، فإن استوعبَ ذلك، واجتهدَ في عمله، وتواضعَ في خدمته، وأخلص في أدائه، استحقَّ وظيفته، واستحلَّ راتبه، وإن هو تعالى على الناس وتكبَّر، وقابل الإحسان بالنكران، فإنه ليس جديراً بوظيفته، ولا محقَّاً في تحصيل معاشها..!

ليعلم كل موظف أن ما يقدِّمه للناس من عمل ليس مِنَّةً وإحساناً منه لهم، بل واجباً كُلِّفَ به، ومسؤوليةً حمِّل إيَّاها، وبمقتضى ذلك فإنَّ عليه أن يُخلصَ في عمله، وأن لا يعتقد أنَّ ما يقدِّمه للناس من خدمات يستحقُّ ما يقابله من الثناء العظيم، والتفخيم المبجَّل، وإن استحقَّ الشكرَ عليه كواجبٍ أدبي.

ليعلم كلَّ موظف أنَّ التعالي والتغطرس على الناس إنما ذلك من مرضِ النفوس، وليس علامةً على الفوقية، فمن تواضع لله رفعه، وعلى عكسه؛ من تكبَّر للهِ أرداه، وإنَّ تعاليه يقابل عند الناسِ بالتهكم والتذمر، وتواضعه يقابل بالثناء المستحق.

ليعلم كل موظف أنَّه إن عمل كما يحلو له لا كما توجبُهُ عليه واجباتُ الوظيفة فقدَّم مصلحة هذا على ذاك لمزاجٍ وهوى وليس لأهميَّةٍ، وقضى مصلحةَ هذا قبل ذلك لقربى أو لمصلحةٍ وليس لأحقيَّةٍ فإنَّه يصبحُ عدوَّ وطنهِ، وغريم وظيفته، وخصمَ من أقصاهُ وعطَّل مصلحته عند الله تعالى، وأنَّه سيلاقي من يقابله في مصالحه هو أيضاً بنفس مزاجيته، وهواه، فينيله التنغيص والتضييق، يقول الشاعر:

وما من يدٍ إلا يدُ الله فوقها .. وما ظالمٍ إلا سُيبلى بأظلمِ.

فإن عَلِمَ الموظف بكلِّ ما تقدَّم قوله، ووعاهُ، فأصبحَ معتقداً به اعتقاداً راسخاً، وطبَّقهُ تطبيقاً رشيداً كانَ أثرَ ذلك على الوطنِ عظيماً، وإحسانهُ كبيراً، وحينئذٍ تتقدَّمُ الأُمَّة، وترتقي صعوداً لتكسبَ حصادَ الإِخلاصِ من أبنائها الأَبرار، وتنال الرِّفعةَ والسُّؤدد من أنجالها الغرِّ الميامين.

وليعلم كلَّ موظف بأنَّه لو علمَ ذلك ولم يعتقدَ به، ولم يطبِّقه على وظيفته فقد جلبَ الخُسرانَ على وطنهِ قبل أن يَجْلُبْهُ على نَفْسِهْ، وأنَّ تأخُّرَ وطنهِ راجعٌ إليهِ بالأَسباب، وهو في ذلك أمام خيارين: إسعادٌ أو إشقاءْ "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [سورة الشمس:9، 10].