ضوابط التشريعات المتعلقة بالتقنية واقتصاد المعرفة

 

د. بدرية بنت ناصر الوهيبية

باحثة في المجالات الاجتماعية والثقافية

 

إنّ التطور التقني والتكنولوجي المُتسارع خلّف بعض المخاطر والآثار المجتمعية السلبية التي تحتاج إلى مُعالجات تشريعية وقانونية تعمل بفاعلية في مكافحة جرائم تقنية المعلومات الناتجة من استخدام الشبكة المعلوماتية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتنظيم استخدامها، فضلاً عن متطلبات اقتصاد المعرفة في تطوير القوانين المستخدمة لتتناسب مع احتياجات تنفيذه، وتوفير بنية اتصالات وتكنولوجيا معلومات آمنة الاستخدام من أجل المساهمة في بناء مجتمع معلوماتي آمن، إذ إن تطور هذا النّوع من الاقتصاد واستمراريته يعتمد على استخدام الأساليب المتقدّمة والوسائل التقنيّة الحديثة، ما يحتاج إلى إيجاد تشريعات مؤطرة ودقيقة في هذا المجال للحد من حدة الآثار السلبية على المجتمع. والتشريع في مجال التقنية واقتصاد المعرفة له خصائص معينة تساعد على ضبطه وحوكمته وتناسب احتياجات تطوره، أهمها تتصف بالمرونة والحداثة، وتتلاءم مع تطور تلك المشكلات وازديادها، وتتناسب مع الجرائم الإلكترونية المختلفة -وهذا ما أكدت عليه رؤية عمان 2040 في تحقيق أهداف أولوية التشريع والقضاء والرقابة من حيث أهمية إيجاد تشريعات مرنة ومستجدة – لذلك نجد أهمية تطوير التشريعات القديمة بما يتواكب مع تطورات العصر لتلبي حاجة المجتمعات وبما يتناسب مع التقدم العلمي، لذا لابد أن يتمتع الباحث القانوني في مجال التقنية واقتصاد المعرفة بمستوى علمي وثقافي يؤهله لمعرفة أحدث التطورات في المجال، فضلاً عن أهمية مشاركة المختصين في مجال التقنية والمعرفة في صناعة تلك القوانين.

       أمّا فيما يتعلق بالقواعد الفنية لصياغة التشريعات المتعلقة بالتقنية واقتصاد المعرفة فتنطلق بداية من أهمية تحديد أهداف التشريع ومبرراته، لتكون واضحة وتحدد مجال اختصاصها سواء أكان في مجال حماية المنشآت والأجهزة الأمنية من الاختراقات، أم في مجالات اقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها، لتحقيق الهدف الأسمى من وضعها؛ وهو حماية المجتمع من الاختراقات وجرائم التقنية، وحماية البيانات الشخصية للأفراد، وغيرها. أمّا القاعدة الثانية تسلط الضوء على أهمية ضبط العلاقة بين القوانين ذات الصلة إذ ظهرت عدة قوانين متعلقة بالتطور التقني، تنظم بعض استخداماتها، وحتى لا يحدث تعارض بين القوانين السابقة والقوانين المستحدثة، فتكون الصياغة على وجه يتناسب مع السياق القانوني القائم، والذي يهدف إلى أن تكون نصوص التشريع المقترح متلائمة مع النّصوص ذات الصلة في التشريعات القانونية النافذة.

    والقاعدة الثالثة تركز على ضرورة تحديد التصنيف القانوني الذي ينتمي له التشريع، إن كان يتبع القانون العام -على سبيل المثال- وهو أحد أقسام القانون الذي يندرج تحته القانون الدولي العام والقانون الدستوري والقانون الإداري، والقانون المالي والجزائي أو الجنائي في بعض التشريعات ونجد أنّ الجرائم الإلكترونية تنضوي تحت هذا القسم، أو يتبع القانون الخاص الذي يندرج تحته مجموعة من القواعد القانونية التي تحكم علاقات الأفراد فيما بينهم. بالإضافة إلى ذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار العوامل المؤثرة في محتويات التشريع، وأهمها: القواعد الدستورية، والاتفاقات الدولية؛ حتى تكون القوانين متوافقة مع أحكام ومبادئ الدستور أو النظام الأساسي للدولة وتنسجم معها، ومراجعة الاتفاقات والمعاهدات الدولية في هذا المجال لاتخاذ الإجراءات المناسبة لملاءمة تلك القوانين مع أحكامها.

   وبالنسبة لبنية محتوى التشريع عامة، فيجب أن يشمل المحتوى على عناصر التشريع الأساسة والاختيارية، وتتمثل العناصر الأساسة في العنوان، والموضوع الذي يتضمن معالجة محتوي الاقتراح التشريعي، والتقسيمات الفرعية للتشريع المقترح، أمّا العناصر الاختيارية تتمثل في التعريفات، وكذلك الإلغاءات، والملاحق، والأهداف التي تنتج من التشريع؛ بغرض فهم محتوي التشريع وسهولة تطبيق أحكامه. 

     بالإضافة إلى ذلك يتحتم ضبط التعريفات المدرجة في بنية المحتوى التشريعي، حيث إنّ المصطلحات ودلالات المعاني تختلف من مدرسة تشريعية إلى أخرى ما يتطلب البحث عنها وعن دلالاتها في القوانين القائمة لتوحيد المصطلحات القانونية، وحتى تحقق نوعاً من المواءمة بين النّصوص التشريعية.

    وفيما يتعلق بلغة التشريع وأسلوب صياغته، فإنّه من منطلق اللسانيات القانونية التي تسعى لتطبيق القانون انطلاقًا من المفاهيم اللغوية ومراعاة السياق الدلالي التأويلي في صياغة المصطلحات والعبارات، تأتي أهمية إيجاد تطبيقات لغوية سليمة لصياغة القانون وتفسيره وتنفيذه، إذ إن جودة التشريعات تتوقف على جودة بناء الأحكام القانونية، وجودة القالب اللغوي الذي يضم تلك الأحكام، لذا يقتضي التشريع استخدام لغة تتصف بالسهولة، والوضوح، والدقة، والقطعية، ويتميز أسلوب صياغته بالترابط والانسجام ووحدة الأسلوب، وأن تكون النّصوص ذات دلالة واضحة مع المعنى المقصود من النّص التشريعي؛ حتى يتمكن من استخلاص الأحكام القانونية منها بما يناسب أغراض التشريع، وبعيداً عن الأخطاء والغموض والتعقيد، وتجنب المصطلحات ذات التأويلات المتعددة، فضلاً عن أهمية استخدام الألفاظ ذات التأثير التي تناسب الأوامر والنواهي القانونية، وغالباً ما تستخدم لغة التشريعات زمن المضارع في الأفعال كأن يقال: «يلغى القانون المشار إليه» أو «تُنشَأ بموجب هذا القانون أمانة عامة»، وهكذا، وكذلك استخدام الفعل بصيغة الإيجاب لا النفي، فنقول مثلاً: «يجب أن يكون الموظف ملتزماً بالواجبات»، لا أن نقول: «يجب ألا يكون الموظف غير ملتزم بالواجبات».

     وختاماً ومن خلال الاطلاع على بعض القوانين المتعلقة بمجال التقنية واقتصاد المعرفة والفضاء السيبراني بشكل عام، فإني أرى أهمية اعتماد قواعد استرشادية موحدة للدول العربية في مجال التشريعات التقنية واقتصاد المعرفة، وأهمية توحيد مصطلحاتها القانونية كإيجاد معجم مختص للمصطلحات القانونية في المجال التقني واقتصاد المعرفة، وتدريس منهج اللسانيات القانونية في الكليات القانونية لتعزيز جودة التشريعات، وأهمية إشراك المختصين في مجال التقنية والمعرفة أثناء صياغة التشريعات المتعلقة بالتقنية وجرائمها لتمكنّهم من معرفة بعض الحيثيات التخصصية وبالتالي إفادة القانونيين بها، وأهمية تعزيز قدرات الباحثين القانونيين والمهتمين في مجال التشريعات التقنية واقتصاد المعرفة والعاملين فيها وذلك عن طريق التأهيل والتدريب، وتخريج مجموعة من المدربين للمساهمة بشكل فاعل في تطوير القوانين المعاصرة وآلية صياغتها لمسايرة التطورات الحديثة في المجال.

 

تعليق عبر الفيس بوك