الناقدة

 

فاطمة بنت إسماعيل اليمانية

 

"لا أستطيع وصف أي شيء بالتافه لمجرد أنّه يُعجب غيري ولا يعجبني، هنا الإشكال الثقافي.. تغيرات المذاق العام كبيرة، وليست تحت سلطة أحد". عبد الله الغامدي.

***

ارتدت نظارتها وتنحنحت كثيرًا قبل أن ترد عليهم بالموافقة، بعد أن وقع عليها الاختيار كناقدة للنصوص الأدبية التي أقامتها المُشرفة الثقافية في الكلية من باب تشجيع المواهب الطلابية.. وستكون ثمة جوائز رمزية، وشهادات تقدير، وتغطية إعلامية.. وستطبع النصوص الفائزة في كتيب صغير يتم توزيعه على الحضور أثناء الحفل.

  • حسنا.. موافقة.

حملت ملف الأعمال الأدبية، وألقت به على طاولتها وتمددت على السرير بعد يوم شاق مع الطالبات العنيدات اليافعات الساذجات! أو ربما ليس جميعهن ساذجات لكنّها الآن في ذروة غضبها من نظرة ساخرة أرسلتها لها إحداهن عندما كانت تُلقي عليهن محاضرة عن شروط النقد البنّاء؛ فقالت الطالبة بعد أن رفعت يدها:

  • لكنّ النقد لا يخلو من الذاتية.
  • هذا ليس نقدا.. هذا عبث!
  • النقد عبث؟!
  • لم أقل ذلك، قلت بأنّ الذاتية تنتج نقدًا عابثا!

اكتفت الطالبة برشقها بنظرة ساخرة تخيلت الدكتورة نوال من شدّة شعورها بالاستفزاز بأنّها تسلّلت بين جموع الطالبات، واقتربت من هذه الطالبة المستفزة وأطبقت يديها على عنقها، وخنقتها حتّى الموت! وخنقت معها أفكارها الغبية وأسئلتها التافهة المزعجة!

وكيف لهذا الرأس الصغير والوجه المليء بلطخات المكياج الترابي أن يُدرك النقد؟ النقد البنّاء؟ النقد كعلم وليس مجرد إرهاصات كتّاب، ونقاد متحيزين لآرائهم وكتاباتهم واتّجاهاتهم النقدية؟!

ثمّ تنهدت..

ونهضت لتعدّ كوبا من القهوة.. كوبين.. ثلاثة! لا يهمّ كثيرًا إذا ارتفع الضغط المرتفع أساسا.. المهم أن تستعيد طاقتها على استيعاب الكلام المكتوب على الأوراق البيضاء لتضع له تقييما صادقا، بعيدا عن الذاتية، والتحيز!

فأخرجت الأوراق ووضعتها على طاولة صغيرة قربها وتمددت على الأريكة، وأمسكت بالقصّة الأولى لقراءتها بعد أن بحثت عن اسم المؤلفة، ورأت أنّ اللجنة وضعت عليه شريطا لاصقا أبيض اللون لإخفاء الاسم! يمكن نزعه وإعادته مرّة ثانية؛ فنزعته وقرأت الاسم وعرفت صاحبة الاسم، إنّها تلك الطالبة التي تجلس في آخر القاعة تطلق نظرات تائهة على زميلاتها وعلى المكان، وتذكرت عندما طرحت عليها يوما ما سؤالا، فهزّت رأسها لطرد الكسل، وقالت لها:

  • ماذا؟
  • ألم تسمعي السؤال؟
  • سمعت، ولم أفهم!
  • لو قلتِ بأنّك لم تسمعي لكان الأمر أهون.
  • لكنّي سمعت ولم أفهم يا دكتورة..
  • هذا يعني أنّني غير قادرة على إفهامك المادّة!
  • لم أقصد، هلّا أعدتِ سؤالك يا دكتورة؟

مضت عشر دقائق وهي تحاول إفهام الطالبة السؤال، لكنّ الطالبة كانت مصرّة على عدم فهمها لأيّ كلمة من كلمات السؤال، وتمّنت لو لم تسألها، ولم تقترب منها، ولو تركتها نائمة في مكانها، فهي الآن تشبه الكائنات الشبحية التي يتحدثون عنها في البيوت المسكونة، والأماكن البعيدة حين يحذرون الجميع من الاقتراب منها، وعدم إثارة رعبها، واستفزازها؛ لأنّ التخلص منها متعب.. متعب جدا!

واستسلمت الدكتورة أمام الطالبة وطلبت منها الجلوس، وقطعت عهدًا بينها وبين نفسها على تجنب طرح الأسئلة عليها، والدخول في جدال مع فتاة بلهاء شاردة الذهن، وستكتفي بما تكتب في الاختبار النهائي لتقييمها!

قرأت ثلاثة أسطر من قصّتها، وتذكرت شعورها بالغثيان الذي أصابها ذلك اليوم، فكتبت قرب العنوان:

  • هُراء.. لا تصلح!

وأمسكت القصّة الثانية، وقبل قراءتها عرفت صاحبة القصة، كانت القصة من تأليف طالبة اسمها نورة، وكانت نورة من فئة الطالبات المشاغبات، اللواتي يثرن الضجة في القاعة، لكنّها رغم شغبها تتفاعل معها أثناء المحاضرة، وبعد انتهاء المحاضرة تتبعها كظّلها وتدخل معها مكتبها، وتضع وردة على طاولتها وهي تقول:

  • الورد.. يبحث عن الورد!

فتشعر بالشباب، والجمال، والفرح..

لذلك كانت تحبّها، وتفضلها على الأخريات، ويحقّ لنورة مالا يحقّ لغيرها، فهي تضحك معها في المحاضرة بنفس الدرجة التي تقطب فيها جبينها للأخريات.. فقرأت القصّة وكتبت عليها:

  • قصّة متميزة، لغة قوية، خيال خلّاق.. مُبدعة! المركز الأول.

رغم سذاجة الفكرة، والطرح، وعدم الابتكار، وعدم وجود قصّة من الأساس!

ثم قرأت القصة الثالثة، والرابعة، والخامسة، وكانت تقرأ اسم الطالبة قبل تقييم القصّة، ووصلت للقصة السادسة، وكتبت أمامها المركز الثاني، وكانت الطالبة ابنة عميد الكلية.. وكيف تُشارك ابنة العميد ولا يوضع لها مركزًا؟! وفكرت أن تضعها في المركز الأول؛ لكنّها خشيت من انتقاد الجميع لها، واتّهامها بالتحيّز لابنة العميد! وهي الناقدة التي لا تتحيز مُطلقا! وتنقد بعيدًا عن الذاتية!

ثم قرأت القصّة الأخيرة.. وكانت تضحك من طرافة الأحداث، والأسلوب الساخر، وخشيت أن تختار قصة ساخرة؛ لأنّها تعتبر السخرية من مفسدات الكتابة الأدبية، وتقول بالحرف الواحد:

  • السخرية ليست أدبا، بل قلّة أدب!

وكتبت في عريضة التقييم:

  • تمّ حجب المركز الثالث، لعدم وجود نص ملائم!

وفي نهاية الشهر تمّ الإعلان عن نتيجة المسابقة؛ فثار غضب سارة وهي إحدى الطالبات المشاركات في مسابقة القصة القصيرة، واتّجهت لها بوجه أحمر مكفهر من هول الصدمة، ووقفت أمامها وقالت لها:

  • دكتورة نوال، لماذا رفضتِ قصّتي؟
  • ما اسمها؟
  • صبّار.
  • لم تكن قصّة؟
  • قرأتِها جيدا؟
  • ماذا تقصدين؟
  • كيف تضعين قصة شروق في المركز الثاني وهي قصة مسروقة من أحد المواقع الأدبية!

التزمت الدكتورة المذهولة الصمت، وأخرجت الطالبة هاتفها، وفتحت على الموقع الأدبي؛ وأرتها الصفحة واسم الكاتب الحقيقي؟

وتابعت سارة كلامها:

  • لأنّها ابنة العميد؟!
  • اخرجي حالا! لا أسمح لكِ؟

خرجت سارة وهي تتوعدها بالذهاب إلى عميد الكلية، غير مهتمة بعواقب الدخول في عراك معها، لكنّها تريد فقط أن تلقنها درسا في النزاهة، وعدم المحاباة، وأن يكون الناقد متجردًا من التحيز، وصادقا وأصيلا في نقده، كما كانت تقول دكتورة نوال! وكما كانت تدّعي.

شعرت دكتورة نوال بأنّها وقعت في مأزق حقيقي، وكيف ستخبر العميد بأنّها ستعيد التقييم، وبأنّ ابنته شروق سرقت النص الأدبي من أحد المواقع الأدبية، والنتيجة تمّ الإعلان عنها، وتم نشر الصور في مواقع التواصل، وإرسال بطاقات الدعوة للتكريم؟!

والفضيحة المدوية ستحدث عند توزيع النصوص الفائزة على الحضور، حيث سيكتشف بعضهم أنّ قصّة شروق مسروقة، والطامّة الكبرى أنّها سرقت القصّة من صفحة أدبية لكاتب مشهور!

مرّت نصف ساعة، ووصلتها رسالة من عميد الكلية يطلب منها الذهاب إلى مكتبها، ودخلت مكتب العميد لتشاهد المشرفة الثقافية، والطالبة سارة وهي تُرشق الجميع بنظرات غاضبة، فطلب منها العميد الجلوس، وقال لها:

  • سارة تدّعي بأنّ قصّة ابنتي شروق منسوخة من أحد المواقع الأدبية.
  • للأسف يا دكتور؟
  • المشكلة فيكِ أنتِ يا دكتورة نوال؟ شروق ومن في مثل عمرها فتيات صغيرات نتوقع منهن بعض التصرفات الطائشة وغير المسؤولة، لكنّك متخصصة في النقد الأدبي، كيف مرّت عليكِ حيلتها؟! كيف لم تنتبهي إلى المقلب الذي وضعتكِ فيه شروق؟!
  • مقلب؟! كان مقلبا؟!
  • لا شكّ، فمن المستحيل أن تسرق ابنتي نصّا أدبيا وتنسبه لها؟!

انتهى الاجتماع بعد ساعة من الشدّ والجذب حول توزيع المراكز، وتمّ الاتّفاق على أن يكون المركز الثاني مناصفة بين سارة وشروق، والاكتفاء بطباعة نص سارة فقط، واختيار نص ثالث يكون صالحا للنشر، لتكتمل المراكز الثلاث الأولى!

خرجت دكتورة نوال خجلة من تحيزها، ومن نجاح سارة في تعريتها أمام نفسها وأمام الآخرين، مُدركة بأنّها لن تتغير أبدا، لكنّ بالتأكيد لن تتولى مهمة نقد النصوص الأدبية لطالبات الكلية ما دامت على قيد العمل فيها!

ولن تكرر جملتها المشهورة أثناء المحاضرات:

  • أن يكون الناقد أصيلا في نقده! غير متحيز، متّسَما بالصدق، والأمانة!

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك