ما الذي تبقى لتأخذه منا؟

علي بن سالم كفيتان

يقول أحدهم: كنت عزيزًا رغم فقري، وصبرت على ضيمك حتى حك حملك الثقيل نخاع عظمي، ورغم ذلك أثرتُ الدروب البعيدة التي لا تتقاطع مع محطاتك المظلمة، جيل خلف جيل يتناوبون على حوض الجهل الآسن الذي بنيته لنا يومًا حتى توالد الجهل، وفرّخ أفرادًا وجماعات، فما ذنب كل تلك الحقب التي ظنت أنها تعيش بمفردها في هذا الكوكب؟ بينما كنت تستفرد بأخبار الكون على مسرجتك التي دأبت على إطفائها قبل منامك حفاظًا على بقايا الشحم الذائب أسفلها، لكي يكفيك أيام أخرى من القراءة، بينما نحن نموج في أتون البدائية وأنت تعلم... تمنيت أن تكون جاهلًا مثلنا.. فلعلك كنت سترأف بنا، لكن كل سنوات العلم التي قضيتها في المهجر، وحشد الكتب التي جمعتها وحرقتها يومًا في مخيلتك لم تضف جديدًا لنا؛ لأنك باختصار كنت جاهلًا مُتعلمًا، وأحببت التفرد بهذا الجهل، فطمست كل الأمنيات، ووأدت كل الأحلام، حتى باتت تلك العجوز تجمع بقايا عين تلك الفتاة الجميلة بالمرواد، وتضع أكوام الكحل داخلها؛ لتحافظ على بقاء شكل عينها، بعد أن خرقتها شوكة، وهي تلعب مع صديقاتها لعبة الدمى، خُيِّلَ لي أن الجدة ستكون واحدة من أبرع جراحي العيون لو تنازلت لها عن شيء من عنفوان الجهل الذي يسكن داخلك.

سقطت كل الأحمال التي تفننت في وضعها على ظهور القافلة المنهكة؛ لأنها لم تعد تقوى على المسير بعيدًا بثقل أوزارك، فأُنيخت الإبل التي تحمل تنك السمن، وجواني اللوبيا والذرة وأجربة التمر وسعن العسل، وغيرها من الثمرات المغطاة بعرق الفقراء والمعوزين؛ لتصب في مخزنك القديم على سيف البحر، وذلك "الكراني" الغليظ الذي لا يسامح من حبة مشمش سقطت سهوًا في الطريق، فكان على الجميع أن ينتظر البحث عنها، وإلا فلن تقبل كل هذه القرابين القادمة من فضاء العدم وسنين القحط والهلاك، لتقرأ أنت جريدة "الإندبندنت" أو "واشنطن بوست" مسترخيًا على أريكتك الأثيرة، بينما تئن النفوس في كل أرجاء المملكة الغائبة عن الزمن والممسوحة من كل كتب التاريخ، وفي المساء تتجول بسيارتك الوحيدة في القرية لتشهد على صنيع أفعالك بالناس، وحولك حرس غلاظ شداد كل همهم رؤية الابتسامة الغامضة ترتسم على طرف وجهك العابس، والناس حفاة ولا تغطي أجسادهم سوى خرق بالية، ومع ذلك ينحنون لمرورك المبجل، ويصفقون خلف موكبك المتبوع بأهازيج قادمة من فضاء العبودية والجهل.

أغلقتَ كل أبواب مملكتك بإحكام، وأطبقت على النَّاس المنكسرة التي تهيم خلف بقايا الشياه على مفازات الصحراء وتخوم الجبال، لا يحبون الاقتراب من المدن التي تحل بها، فالشباك والعشور والتفتيش، تجعلهم يفضلون أكل أوراق الأشجار عن الحلول إلى جوارك؛ لذلك ظلوا متمترسين خلف قيمهم السامية، وبقايا إبلهم خوفًا من القادم، لم يجدوا ما يبحثون عنه في مدينتك المغلقة وقوانينك الجائرة، ففر الكثير من خلف الأسوار، وتقاذفتهم الأمواج إلى الفضاء الخارجي، في هدوء الظلام؛ حيث لا يستطيع الحارس رؤيتهم... يتراكضون في الظلام الدامس ويلوذون بقطيع من الأبقار يقودهم- مع حلول الفجر- إلى قرية ريفية، يسألون عن أسماء يعرفونها، يدلهم الجميع ويقوم بالاعتناء بهم حتى يصلوا لوجهتم... عرفهم ذلك الريفي الأصيل ورحب بهم ونصحهم بالبقاء معه؛ فالأبقار تدر الحليب الوفير، وموسم الحصاد على الأبواب، ومزارع اللوبيا والذرة تكسوا مساحات شاسعة من المكان، لكنهم رفضوا وأصروا أن يكملوا رحلتهم إلى المجهول الذي دفعتهم اليه بمحض إرادتك.

سقط القناع أخيرًا، وبات الحفاة لا يعترفون بسلطتك، ونضبت خزائنك من علب السمن والذرة واللوبيا والتمر والمشمش وغيرها، فقررت أن تعاقبهم عقابًا عسيرًا، فرفعت العشور، أو كما يسمونها الضريبة، على كل ما ينتجون، وبنسبة تجعل من كل صنيعهم موادَ لا يمكن بيعها أو شرائها، وأنشأت الحصن تلو الآخر؛ لجمع الأموال على كل شاردة وواردة، نكايةً بهذا العصيان... عادوا إلى قراهم النائية، وأفلاجهم التي لا تهدأ عن التدفق، فحملوا المطرقة والمنجل لحصاد جديد، ربما لم تعرفه من قبل... بحثوا عن بقايا أنفسهم الضائعة، ورمموها بصمغ أشجار الوديان ورائحة الزعتر الجبلي المنعش، وبحثوا عن سفينة تأخذهم بعيدًا؛ حيث لا توجد أنت، ومع ذلك وجدوك في كل الدروب واقفاً، كطودٍ لا ينكسر، فساروا في ظلك حتى عبروا للضفة الأخرى التي لم تكن أنت فيها، وقالوا لك من بعيد.. ما الذي تبقى لتأخذه منا؟!