الهيمنة الثقافية في مفهوم بيير بورديو

علي الرئيسي **

** باحث في الاقتصاد و قضايا التنمية

"الذوق ليس ملكة فطرية طبيعية عند الإنسان، بل هو نتيجة وسطه الاجتماعي وعملية التذوق تتحدد انطلاقا من الموقع الذي يحتله الفرد في المجتمع". بيير بورديو.

تتخذ الثقافة أشكالًا متنوعة عبر المكان والزمان، ويتجلى هذا التنوع في أصالة وتعدد الهويات المميزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية.

والتنوع بوصفه مصدرًا للتبادل والتجديد والإبداع، ضروري للجنس البشري ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحية. وبهذا المعنى فإن التثاقف هو التراث للإنسانية وينبغي الاعتراف به، والتأكيد عليه لصالح أجيال الحاضر والمستقبل. إلا إن النظام العالمي الجديد قد سعى في ظل العولمة إلى تغيير هذه الوضعية، إذ إن الشمول صار يبتلع التنوع ابتلاعا. فالعلاقة بين المجموعة وعناصرها هي تذويب و ابتلاع، لا تمايز أو اجتماع. والعولمة في نظر بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، أحد رواد النقد الثقافي، تطمس حدود الأمم وخصوصياتها، لذلك من الصعب تصور بقاء الأمم بثقافاتها المتنوعة أمام تحديات العولمة التي تقرر مرجعيات المستقبل باستخدام العنف الرمزي.

هناك من النقاد من يفرق بين مجالات الثقافة، فالثقافة في مفهومها ارتباطات أهمها الدين، السياسة، التاريخ، والفلسفة، وهذا ما عبر عنه تيري إيجلتون بقوله: "إذا ما كانت كلمة ثقافة نصا تاريخيا وفلسفيا فهي أيضا محل صراع سياسي، وداخل كل ثقافة تولد ثقافة مغايرة ومضادة و هو ما يصطلح عليه ’الثقافة المضادة‘". وأهم الأسئلة التي طرحها بيير بورديو عبر 40 كتابًا وأكثر من 100 مقالٍ هو كيف يُعيد المجتمع الرأسمالي إنتاج التراتبية الطبقية نفسها؟ ولكن ليس انطلاقا من التشديد على العوامل الاقتصادية، كما كانت الماركسية الكلاسيكية، بل التركيز على العوامل الثقافية والرمزية. وهو الذي سيتضح من كتابة "إعادة الإنتاج" الصادر في سنوات الستينات من القرن الماضي.

وهو الذي سيسعى فيه إلى إبراز كيف أن المدرسة ليست بريئة قط. وكيف أنها تُساهم في إعادة الطبقية نفسها داخل المجتمع. وإن المدرسة تخدم الطبقة المسيطرة؛ لأنها تفرض برنامجا دراسيا يتلاءم و الرأسمال الثقافي الخاص بها. فالثقافة التي يتلقاها المتعلم الفرنسي خصوصا، والمتعلم الرأسمالي عموما ليست موضوعية أو نزيهة، بل هي ثقافة مؤدلجة تخدم الطبقة النافذة . لذلك فإن تصنيف الذكاء في المدرسة لا يخلو من الإقصاء، كما لا يمكن فصله عن الصراعات الاجتماعية. لذلك عند تحليل الطلبة المقبولين في الجامعات العريقة، تجد أن معظمهم ينحدر من طبقات معينة. لذلك فإن نظام التعليم الذي يظهر على أنه وسيلة للانعتاق و التحرر، هو في مجملة مزية أو امتياز. وكي نفهم ذلك جيدا لا بد من معرفة مفهوم مركزي لدى بورديو هو "الهابيتوس Habitus".

 

 

و"الهابيتوس" في علم الاجتماع هو متأصل اجتماعيًا من عادات، وتقاليد ومهارات، وهي الطريقة التي يُدرك فيها الأفراد وضعهم الاجتماعي الذي يُحيط بهم، وطريقة تعاملهم مع هذا الواقع. وهذا التصور يُشاركهم فيه كل الأشخاص الذين يتمتعون بنفس الخلفية المشتركة (كالطبقة الاجتماعية، الدين، العرق، المستوى التعليمي والمهنة). لذلك الهابيتوس هو كل المضمرات من خبرات وكفاءات و قدرات ناتجة عن التربية. وهي طريقة تعامل المجموعات الثقافية وكيف يتحدد سلوك وميزات هذه المجموعات نتيجة للتربية. لذلك الهابيتوس على المستوى الاجتماعي هو الوصف الذي يتم عن طريقة كيفية تذويب الذات في الصراع الطبقي، و كيف يجعل ذلك من الترقي في السلم الاجتماعي صعبا، وأن لم يكن مستحيلا، يزعم بورديو إن ذلك ليس حتميا، ولكن للأسف يمكن الترقي أو الصعود فقط ضمن محدادات معينة.

بورديو كان مهتما بطبيعة الثقافة، وكيف يتم إنتاجها وإعادة إنتاجها اجتماعيا، وعلاقتها بممارسة السلطة أو القوة، لذلك يعتبر أحد أهم ما قدمه بورديو هو العلاقة بين ثلاث أنواع من رأس المال: الاقتصادي، الثقافي، والاجتماعي. فالرأسمال الاقتصادي، هو أن تملك أصولًا مالية، والرأسمال الاجتماعي، هو العلاقات الاجتماعية، وشبكات المصالح والنفوذ، أما الرأسمال الثقافي فهو ما يملكه الشخص من مهارات، ومعرفة، ومستوى تعليمي ومهني.

وبالتالي- عدى عن الأثرياء و حملة المؤهلات العليا- فإن معظم الأفراد يملكون القليل من هذه الرساميل. ويعتقد بورديو أن أغلبية الناس من الصعب عليها أن تحصل على أي من هذه الرساميل.

هذه الرؤية المتشائمة تعكس حقيقة واقع التفاوت الطبقي في المجتمع، وهو صراع من أجل الهيمنة والنفوذ في مجتمع منقسم بين المهيمن و المهيمن عليه. لذلك يقول: "إن بحثي يوضح أن الثقافة و التعليم ليست فقط هوايات أو ذات تأثير بسيط، ولكنها ذات أهمية قصوى في إثبات الفروقات الموجودة بين المجموعات والطبقات الاجتماعية، وفي إعادة إنتاج هذه الفروقات"، بحسب مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.

أحد أهم أعمال بورديو هو كتاب "التمايز Distinction.. النقد الاجتماعي للحكم على الذوق" والذي أصدره عام 1984، وهي دراسة فارقة حول العلاقة بين سلوك المستهلكين، والطبقة الاجتماعية. ويُعد الكتاب من ضمن أفضل 10 كتب نشرت في القرن العشرين في علم الاجتماع. ويرى بورديو أن العامل الاقتصادي له دورا حاسما في تحديد الذوق الفردي، نظرا لأنه هو ما يحدد موقع الفرد داخل السلم الاجتماعي والثقافي. ويرى بورديو أن ما نسميه "الذوق" هو مجرد مجموعة من الارتباطات الرمزية التي نستخدمها؛ لنميز أنفسنا و نثبت تفردها عن أولئك الذي نعتقد أنهم أدنى منا اجتماعيا. وعلى الرغم من أن قاعدة استهلاك الثقافة اتسعت وتمت ديمقراطيتها في السنوات الأخيرة، إلا إنها لاتزال تمثل نشاطًا طبقيًا بطريقة أو أخرى.