أفغانستان

 

محمد بن سالم البطاشي

تبقى السياسة قاصرة إذا لم تتحلَ بالعدل وتصونها أنوار البصائر من الغلو والشطط، وإن كان ممارسوها من المحترفين المختصين الذين تتوافر بين أيديهم كافة المعلومات جليلها وحقيرها. ففي بحر السياسة المُتلاطم قد يضل الساسة عندما يكون طابع الاندفاع والتشفي والعنصرية والانتقام وفرض السيطرة واستعراض القوة هو المحرك لقراراتهم، يحدث هذا بالرغم من المواعظ التي يُقدمها الدهر لكل من له بصر وبصيرة، وسجل التاريخ يزدحم بأمثلة من الفظائع والكوارث تسببت بها قرارات مندفعة بعيدة عن العقل والإنسانية، وكانت نتيجتها حلول البوار والخسار بساحة الفرقاء كافة.

ولعل أفغانستان مثالا بارزا- من التاريخ الحديث- على تغول القرارات المندفعة القائمة على حسابات خاطئة، عندما يعتمد ميزان القوة العسكرية وحده، وتجاهل عوامل مهمة كالتاريخ والجغرافيا والدين، وهو ما أدى إلى تورط الاتحاد السوفيتي -وهو في أوج قوته- حين دعم أحزاباً شيوعية في انقلاب عام 1978م. ودخل في حرب استنزاف استمرت 11 عامًا، تكبد خلالها نحو عشرة آلاف قتيل من الجنود والخبراء ومئات الآلاف من المصابين والأسرى، حرب أحرقت البشر والشجر والحجر، وارتكب خلالها فظائع يندى لها جبين البشرية خلفت مئات الآلاف بين قتيل وجريح من الشعب الأفغاني، ورغم ذلك فقد قابل الشعب الأفغاني كل هذه المآسي بجلد وصبر يهد الجبال، وقارع المحتل في كل مكان، بعزم لا يلين وقناعة بالنصر مهما طال الزمن، وبعد طول عناد أعلن المحتل انسحابه مهزومًا مقهوراً بعد أن بلغت خسائره حدودها القصوى، بحيث أصبح استمرار الحرب أمر لا يُطاق، وقد كان هذا الغزو ونتائجه الكارثية سببا رئيسا في تفكك الاتحاد السوفيتي وزوال دولته التي استمرت نحو 69 عاما منذ عام 1922 إلى عام 1991م.

في 7 أكتوبر وبعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001، ارتكبت الولايات المتحدة الخطيئة ذاتها، رغم وجود مؤسسات قوية عديدة تبحث وتتشاور وتقلب الأمر على أوجهه المختلفة قبل بلورة القرار النهائي، ولكن عند وقوع القضاء تعمى القلوب والبصائر.

كان الهدف المُعلن للتدخل الأمريكي هو الإطاحة بحكم حركة طالبان المُتهمة أمريكيا بإيواء زعيم القاعدة أسامة بن لادن، المتهم الأول في هجمات 11 سبتمبر، وجيشت لهذه المهمة تحالفا ضم أكثر من 40 دولة، بما في ذلك كل دول حلف الناتو، وانضمت بعض الفصائل الأفغانية للتحالف تجميلاً للمشهد وكسبا للمغانم، واستطاع هذا التحالف بما امتلك من عدة وعتاد السيطرة على المدن الكبرى والأراضي السهلية في فترة زمنية وجيزة، ولكن أفغانستان أرض شاسعة ذات تضاريس طبيعية قاسية، فهناك الجبال الشاهقة شديدة الوعورة، والأودية العميقة الملتوية، والكهوف الكثيرة الواسعة العميقة، التي لا يستطيع سبر أغوارها إلا ساكنوها، وقد وجدت حركة طالبان ضالتها هناك، ففي تلافيف هذه التضاريس الوعرة استجمعت قواها مرة أخرى واستأنفت نضالها منذ عام 2003 لاستعادة الحكم ودحر الاحتلال، وذلك عبر طريق شاق وطويل من التضحيات الجسام، والنضال المُتعدد الأوجه والأشكال، إلى أن خارت القوة العظمى فنزلت من برجها العالي وارتضت تحكيم العقل والمنطق وأدركت أنها وحلفاءها خاسرون لا محالة في هذه الحرب، وأنهم لا طاقة لهم بطالبان ومقاتليها، ومن مصلحتهم تدارك الوضع قبل الإنهيار الكامل، فذهبت مرغمة إلى محادثات الدوحة التي كللت باتفاقية الانسحاب الذي تحدد جدوله الزمني لينتهي في 31 من هذا الشهر.

هذه الحرب خلفت وراءها مآسٍ وخسائر هائلة لا حصر لها، فقد أشار الرئيس أشرف غني إلى أنَّ أكثر من 45 ألفا من عناصر القوات الأفغانية قد قتلوا في الفترة من 2014 إلى 2019، وبحسب تقارير الأمم المتحدة فإن أكثر من 38 ألف مدني قد قتلوا، وأكثر من 70 ألفا قد أصيبوا، وخسرت أمريكا وحلفاؤها أكثر من 2400 جندي وأصيب أكثر من 20 ألفا، وتشرد ملايين الأفغان داخليا وخارجيا، وبلغت تكلفة الحرب المباشرة منذ عام 2001 إلى عام 2019 حسب تقرير البنتاجون نحو 776 مليار دولار، وتريليون دولار حسب تقديرات رسمية أخرى.

إنَّ المرحلة المقبلة في تاريخ أفغانستان مفصلية ودقيقة ويكتنفها الغموض الشديد، وتتطلب مُعالجتها الكثير من المرونة والحنكة السياسية، والتجرد لخدمة الشعب الأفغاني كافة بعيدا عن المطامع والمطامح والأهواء الشخصية، وعلى الأطراف المعنية التحلي بالشجاعة وبعد النظر للتوصل إلى اتفاق سياسي لتقاسم السلطة، ذلك أن الحل العسكري وإن بدا سهلاً فإن الأيام قد أثبتت أنه ليس ضمانة كافية لاستدامة الحكم والسلم الاجتماعي، فمشاكل أفغانستان سياسية بالدرجة الأولى، وأغلب الظن أنَّ هناك خططا مبيتة وأصبحت جاهزة، وربما قد بدأ تنفيذها من قبل المناوئين لطالبان، بالتعاون من الفصائل المعارضة، بهدف زعزعة الوضع الأمني وتفجير حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وهناك من الأطراف الداخلية من هو على استعداد للمغامرة من أجل السلطة والنفوذ.

لذلك فإنَّ محادثات الدوحة هي فرصة ذهبية للأطراف كافة يجب عدم تفويتها للوصول إلى سلام دائم يلملم جراحات أربعة عقود من الحروب المهلكة والتناحر الداخلي والمغامرات الخاسرة والتي أرجعت البلاد قروناً إلى الوراء، والأمل معقود على الوسطاء والعقلاء من الجانبين للوصول بالبلاد إلى بر الأمان قبل فوات الأوان.